بوتين يهدد بالحرب النووية والأميركيون يكتفون “بالتثاؤب”
بعد أشهر من التلويح بتغيير العقيدة النووية الروسية، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس الثلاثاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني عن تعديل شروط استخدام الأسلحة النووية الروسية. ورغم أن تفاصيل القرار كان قد تحدث عنها بوتين قبل شهرين تقريبًا، جاء توقيت الإعلان عنه مثيرًا للمخاوف.
فلأول مرة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية قبل ألف يوم، استجاب الرئيس الأمريكي جو بايدن للمطالبات الحثيثة من قبل الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لمنح بلاده إذنًا باستخدام الصواريخ الأميركية طويلة المدى في استهداف عمق الأراضي الروسية، وخلال يومين فقط كان الكرملين قد أعلن قرار تعديل العقيدة النووية ليلائم الوضع الجديد.
وفي الأسبوع الأخير من سبتمبر/أيلول الماضي، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد لوّح بأن ثمة تعديلات تُجريها إدارته على العقيدة النووية للاتحاد الروسي، سوف توسّع نطاق حالات استخدام السلاح النووي، ليكون من ضمنها استهداف الأراضي الروسية بصواريخ تقليدية من قبل دولة مدعومة بتحالف مع قوة نووية، بما يعني أن استهداف الأراضي الروسية بصواريخ باليستية أميركية قادمة من أوكرانيا سوف يفسَّر بأنه هجوم مشترك بين أوكرانيا والولايات المتحدة مما يبرّر اللجوء لخيار الرد النووي.
وقد قال المتحدث باسم الكرملين وقتها إن هذه التعديلات قد جرت صياغتها وسوف تدخل الإطار الرسمي عند الضرورة.
كان هذا التلويح من قبل موسكو محاولة لرسم الخط الأحمر الذي لا ينبغي على الغرب، أو أي إدارة أميركية قادمة، تجاوزه في دعم أوكرانيا. لكنّ هذا الخط الأحمر لم يصمد طويلًا بعد نتائج الانتخابات الأميركية التي أطاحت بالحزب الديمقراطي من البيت الأبيض، وأعادت الجمهوريين إلى أغلبية مجلس الشيوخ، وأعطت الرئيس المنتخب دونالد ترامب صلاحيات واسعة وهيمنة على سلطات الدولة نادرًا ما يتمتع بها أي مسؤول في أي دولة ديمقراطية.
ورغم التصعيد الروسي الكبير، وصفت صحيفة نيويورك تايمز الرد الأميركي بأنه كان “ينقصه التثاؤب فقط”، في إشارة إلى استهتار المسؤولين الأميركيين بالقرار واعتباره غير ذي أثر في المعادلة النووية في العالم.
لكن ذلك، بحسب الصحيفة، لم يكن نتاج سوء تقدير فحسب، بل لانشغال واشنطن بتوقعات تعيينات ترامب للوزارات في إدارته الجديدة والتي تضم عددًا من أصحاب الفضائح المالية والأخلاقية وحتى الجرائم.
خطوة في سياق معقد
في الأشهر الأخيرة، مرت الحرب الروسية الأوكرانية، وتحديدًا منذ أغسطس/آب الماضي، بعدة منعطفات حرجة كسرت حالة الجمود والتوازن النسبي التي شهدته طوال عام تقريبا.
ففي السادس من أغسطس/آب شنت أوكرانيا عملية توغل بري داخل مقاطعة “كورسك” الروسية في أول هجوم من نوعه تشهده الأراضي الروسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. تطور الغزو الأوكراني لاحقا حتى باتت أوكرانيا تسيطر على نحو 10 آلاف كيلومتر مربع داخل روسيا، تضم 100 تجمع سكاني.
كان يمكن لأوكرانيا أن تحتفظ بحالة توازن إستراتيجي مع روسيا، فقد ردّت الغزو بالغزو، مما يجعلها في وضع أفضل عند الوصول إلى مرحلة التفاوض، حيث يمكن أن يجري الطرفان تبادلا للأراضي الواقعة تحت سيطرة كل منهما، مما يضطر روسيا للانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها منذ اندلاع الحرب في فبراير/شباط 2022.
بيد أن العالم كان على موعد مع الانتخابات الأميركية التي انتهت بإعادة انتخاب الرئيس الأسبق دونالد ترامب في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ومن المقرر أن يتسلّم سلطته الفعلية في 20 يناير/كانون الثاني القادم. وقد كانت الحرب الروسية الأوكرانية مادة متكررة في خطاب ترامب الانتخابي، وبابا واسعا لتوجيه الانتقادات الحادة لإدارة بايدن.
حيث أبرم ترامب خلال حملته وعودا واثقة بإنهاء تورط الولايات المتحدة في الحرب واستخدام أموال دافعي الضرائب بدلًا من ذلك لتحسين حياة الأميركيين، حيث يقدر إجمالي المساعدات المالية التي خصصها الكونغرس لدعم أوكرانيا منذ بدء الحرب بأكثر من 182 مليار دولار، حسب تقرير صادر عن المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية.
كرجل أعمال، يشعر ترامب دومًا بثقة مفرطة في قدرته على عقد الصفقات في أصعب الظروف، ولعله سيمارس أقصى الضغوط على كلا طرفي الحرب للجلوس على مائدة التفاوض، لكن ما يقلق الأوكرانيين وحلفاءهم الأوروبيين بوجه خاص هو أن دونالد ترامب لن يكون معنيا بمراعاة الضرورات الأمنية لحلف الناتو كما كان سلفه بايدن، وقد يكون متساهلا في منح روسيا أجزاء من أراضي أوكرانيا مقابل وقف الحرب.
وقد سبق أن وجه ترامب انتقادات حادة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث أعرب باستمرار عن استيائه من أن بعض دول الحلف “تستغل بلاده”، موجها الانتقاد الدائم لعدم التزام كافة الدول الأعضاء برفع نسبة الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، وفقا للتعهد الذي أُبرم في قمة ويلز عام 2014، لدرجة أنه هدد بأنه سيدعو روسيا لغزو الدول التي لن تلتزم بهذه النسبة. وللمفارقة فإن أوكرانيا كانت من بين الدول التي لم تلتزم بتلك النسبة قبل الحرب.
هكذا أكد ترامب أنه سينهي الحرب بين روسيا وأوكرانيا في غضون 24 ساعة، لكنه لم يقل كيف. لكن السيناتور جيه دي فانس، الذي سيكون نائبًا لترامب، سبق أن اعترض على توفير الأسلحة لأوكرانيا، وجادل بأن الولايات المتحدة تفتقر إلى القدرة التصنيعية لمواصلة توفير أسلحة مثل أنظمة الصواريخ التي سوف تستخدمها كييف لضرب روسيا، وأن هذا قد يحدث خللا في مخزون الصواريخ لدى بلاده.
وتشير العديد من الاستطلاعات إلى أن غالبية الرأي العام داخل الحزب الجمهوري يؤيد وقف الدعم الأميركي لأوكرانيا، حيث قال 62% في استطلاع أجرته مؤسسة “بيو” للأبحاث إن الولايات المتحدة لا يجب أن تتحمل أي مسؤولية عن دعم أوكرانيا ضد روسيا.
ومن ثم فإن أوكرانيا قد تكون بالفعل أمام احتمالات مرتفعة لتخلي الولايات المتحدة عن الاستمرار في دعمها، وهو ما يؤرق كافة دول أوروبا الأعضاء في الناتو، إذ سيكون ذلك بمثابة إحداث خرق حاد في الهيكل الأمني للتحالف.
كرة النار في حجر ترامب
في النظام السياسي الأميركي ثمة حالة فريدة غير متكررة في أي دولة أخرى من دول العالم، وهي أن الرئيس المنتخب لا يتسلّم السلطة فعليا إلا بعد 3 أشهر من انتخابه، مما يسمح للرئيس المنتهية ولايته، إن شاء، أن يتخذ من القرارات السياسية ما يضع الرئيس الجديد أمام قيود حرجة في الملفات التي تتعارض فيها رؤيتهما.
بعد أن تأكد بايدن من رحيل حزبه عن قيادة أميركا، بدا أنه يسابق الزمن لإرسال ما تبقى من المساعدات العالقة لأوكرانيا، كما يسعى لخلق واقع إستراتيجي وميداني جديد في الحرب، يجعل أوكرانيا في موقف تفاوضي أفضل إذا بدأت المفاوضات في عهد ترامب، ومن جهة أخرى يبدو أنه يستفز الرئيس الروسي لاتخاذ مواقف أكثر صلابة ضد أوكرانيا وحلفائها مما يعقد فرص ترامب لتبرير وقف الدعم لأوكرانيا.
في هذا السياق، وافق بايدن على الخطوة التي عارضها مدة 3 أشهر منذ بدء الحرب، وهي السماح لأوكرانيا باستخدام صواريخ من نوع أتاكمز (ATACMS)، وهي صواريخ أرض-أرض موجهة بدقة وبعيدة المدى.
ويُنظر لها باعتبارها أداة فعالة في تدمير المنشآت المدنية والعسكرية ومنظومات الاتصال ومعدات الإطلاق. ويبلغ مداها الأقصى حوالي 300 كيلومتر، وتتجاوز سرعتها 3 ماخات (الماخ يعادل 1225 كيلومترا/ساعة). وبعد إطلاقها، تتخذ مسارًا جويًا مرتفعًا وتسقط بزاوية حادة، ولديها حمولة قادرة على حمل 225 كيلوغرامًا من المتفجرات أو الذخائر العنقودية.
هل يمكن أن تؤثر في مسار الحرب؟
من الناحية العملياتية، فإن ما يصل إلى 14 مطارا روسيا وموقع إطلاق باتت تقع الآن ضمن نطاق هذه الأنظمة الجديدة، فضلًا عن مفاصل رئيسية في خطوط الإمداد الروسية، بما في ذلك مناطق تمركز المعدات والقوات والطرق. وقد نشر معهد دراسة الحرب في الولايات المتحدة الأميركية، خريطة تضم 225 منشأة عسكرية روسية ضمن نطاق “أتاكمز”، وتقع مقاطعة كورسك الروسية بالكامل ضمن هذا النطاق.
لكن تحليلا نشرته مؤسسة “جيوبوليتيكال فيوتشرز” يرجح أنه من دون معرفة عدد أنظمة أتاكمز التي جرى نشرها أو تحديد مواقع الإطلاق بدقة، فمن الصعب أن نقول إلى أي مدى ستغير هذه الأنظمة من قواعد اللعبة.
فأوكرانيا لديها بالفعل صواريخ يمكنها أن تضرب مسافات أبعد من أتاكمز، ولكنها لا تنتج ما يكفي منها لاستخدامها في أي سيناريو باستثناء الضربات الفردية الدقيقة، وروسيا أيضا لديها القدرة على ضرب الأهداف في مختلف أنحاء أوكرانيا، وقد فعلت ذلك مرات عديدة. الفارق هنا سيكون في حجم الإمدادات الأميركية من تلك الصواريخ والذي لا توجد أية معلومات متوفرة بشأنه.
ومع ذلك؛ فيبدو أن روسيا تأخذ الأمر على محمل الجد، حيث إن الخطوة الأميركية قد جاءت في وقت حرج بالنسبة لها. فقد كانت روسيا تستعد لتطوير الهجوم على منشآت الطاقة في أوكرانيا بهدف تعطيل إنتاج الكهرباء مع مطلع الشتاء لتجعل من درجات الحرارة المنخفضة في أوكرانيا سلاحا إضافيا في الحرب، ومن جانب آخر يستعد قرابة 50 ألف جندي روسي لتنفيذ عملية عسكرية بُغية استعادة السيطرة على مقاطعة كورسك وطرد القوات الأوكرانية منها.
الأمر الذي إن حدث بالفعل، كان سيحرم أوكرانيا من أهم ميزة إستراتيجية استطاعت تحصيلها منذ بدء الحرب وتجريدها من أهم أوراقها التفاوضية، وهو ربما أحد العوامل التي دفعت إدارة بايدن لمفاجأة روسيا بهذه التطورات.
أبعاد عالمية: السياق الأوسع للحرب
أبعد من الأراضي الأوكرانية وتطورات ميزان القوى بين روسيا وأكرانيا، ثمة تقارير غربية أكدت أن كوريا الشمالية قد نشرت قرابة 11 ألفا من الجنود لدعم عمليات الجيش الروسي، وبعض التقارير تقول إن الجنود الكوريين يقاتلون بالفعل في كورسك، بحسب وول ستريت جورنال.
هذا التدخل الكوري أعطى ذريعة إضافية لمسؤولين في البيت الأبيض لتبرير قرارات بايدن أمام وسائل الإعلام الأميركية، بحسب فورين بوليسي، وادعاء أنها جاءت ردًا على نشر روسيا لقوات كورية شمالية، وأنها بمثابة إشارة إلى بيونغ يانغ وموسكو في الوقت ذاته.
كذلك ليس من المستبعد أن تتخذ دول أخرى خطوات مماثلة للخطوة الأميركية، حيث تمتلك أوكرانيا بالفعل صواريخ “ستورم شادو” البريطانية والفرنسية ذات المدى المماثل لمنظومة “أتاكمز”، لكن لم يكن يُسمح لها باستخدامها داخل روسيا حتى الآن. لذا بادر بوتين من جهته بالقول إن القرار الأميركي يجلب الغرب مباشرة إلى الصراع في أوكرانيا.
وإجمالا فإن التطورات الأخيرة في أوكرانيا قد تجعلها ساحة مفتوحة لحرب تتوسع تدريجيا حتى تضم أطرافا مختلفة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، فمن المرجح أن ثمة ضوءا أخضر قد أعطي لكوريا الشمالية من قبل الصين للانخراط في الحرب. ففي كل الأحوال ليس من مصلحة الصين أن يستطيع ترامب إطفاء لهيب الحرب في أوكرانيا ليتفرغ سريعا لمواجهة الصين تجاريا وأمنيا.
فهل نحن إذن على مشارف حرب نووية عالمية؟!
رغم التعديلات الجادة التي أدخلها بوتين على العقيدة النووية لبلاده، فإنه ليس ثمة شك في أن بوتين، بتاريخه السياسي والأمني الطويل، يدرك جيدا ماذا تعني فكرة “التدمير المتبادل” التي قد تنتج عن مغامرة استخدام السلاح النووي. كما يدرك أن ثمة تغييرات قادمة في معادلة الحرب سوف تحدث بعد وصول ترامب للسلطة، وأن قرارات بايدن قد لا تتجاوز مساعي ضبط ميزان الردع استعدادا للتفاوض أكثر من كونها استعدادا لتصعيد الحرب.
ومع ذلك؛ فإن تاريخ الحروب الكبرى غالبا ما يشي بأن اندلاع الحرب كان قرارا خاطئا وغير عقلاني وربما مستبعدا، ولذا فإن التلويح بالسلاح النووي وإدخاله ضمن أدوات الردع المباشرة يعد تطورا لا يجب الاستهانة به، ليس لأنه مقدمة فعلية للحرب النووية وإنما لأنه يوسع من هامش الخطأ الوارد في استخدام السلاح النووي.
من جانب ترامب، فقد احتفظ بالصمت لكن دونالد ترامب الابن قال إن بايدن يحاول “إشعال الحرب العالمية الثالثة” قبل أن يتولى والده منصبه، وإنه يريد أن يحرق العالم قبل أن يتمكن ترامب من إعادة السلام وإنقاذ الأرواح. ولا يُرجح أن تكون هذه التطورات مانعا من استمرار ترامب في تقديم خطته التفاوضية لإنهاء الحرب. من الصحيح أنها ستصبح أكثر صعوبة وتعقيدا، لكن لا شك أن ترامب لن يستسلم لخطط بايدن لإجباره للتخلي عن واحد من أهم وعوده الانتخابية.