كاتبة فرنسية للجزيرة نت: فرنسا غادرت الساحل الأفريقي بسبب سياسة ماكرون
باريس- في كتابها الجديد بعنوان “إيمانويل ماكرون في منطقة الساحل: رحلة الهزيمة”، تتتبع مديرة معهد دراسات العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس، الدكتورة ليزلي فارين، خيوط السياسة الفرنسية في منطقة الساحل منذ تولي الرئيس الفرنسي منصبه عام 2017.
وتذكر ليزلي، وهي صحفية استقصائية منذ 20 عاما ومتخصصة في الشؤون الأفريقية، أن الافتقار إلى الإستراتيجية والرؤية والجهل بالواقع الأفريقي والأخطاء؛ أمور أدت إلى طرد فرنسا من منطقة الساحل، وخسارتها لنفوذها في مختلف الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية.
وفيما يلي تفاصيل كثيرة تحكيها الكاتبة الفرنسية تتعلق بالانقلاب في النيجر والعمليات العسكرية في منطقة الساحل، فضلا عن علاقة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي بتأزم العلاقة بين فرنسا ومالي المعقل الأخير لفرنسا في القارة الأفريقية.
-
جاء في مقدمة كتابك، أنه قصة عن رئيس “لا يعرف أنه لا يعرف” وأنه لا يرصد فقط “رحلة هزيمة الرئيس”، بل هو أيضا “فشل دولة بأكملها”، حدثينا أكثر عن ذلك.
بشكل عام، الرئيس لا يمكنه أن يعرف كل شيء، وقد رأينا ذلك جليا في الماضي عندما اختار الرئيس الراحل فرانسوا ميتران وزراء اقتصاد يتمتعون بكفاءة في هذا المجال لأنه لا يفقه شيئا فيه، لكن الرئيس إيمانويل ماكرون لا يتصرف على هذا النحو لأنه يقرر بمفرده، ويعتقد أن له دراية بجميع الأمور.
ففي أفريقيا مثلا، لدينا 55 دولة لكل منها ثقافات مختلفة وتاريخ مختلف، وتتألف منطقة الساحل من 6 أو 7 دول، تمتد من السنغال إلى البحر الأحمر، ولكل منها خصوصياتها ولغتها وتنوعها العرقي، وبالتالي لا يمكننا التعامل معها وكأنها كتلة واحدة.
-
ذكرتِ عمليتي “سيرفال” و”برخان” في منطقة الساحل، هل تعتقدين أن فرنسا أخطأت في فهم جغرافية وخصوصية هذه المنطقة؟
نعم، يتمثل الخطأ الأول الذي ارتكبته فرنسا في شن حرب ضد الإرهاب -على غرار الأميركيينـ من خلال عملية “سيرفال” التي يعود تاريخها إلى عام 2013، أي أثناء فترة رئاسة فرانسوا هولاند، وواصل ماكرون نفس الإستراتيجية عند وصوله إلى السلطة عام 2017. ونعلم جيدا أنهم جميعا فشلوا، لأنه لا يمكن الفوز في حرب غير متكافئة منذ البداية.
وبعد ذلك، قمنا بتنفيذ عملية “برخان” مع عدد قليل جدا من الجنود على الأراضي المالية، حيث كان هناك 2500 رجل في منطقة تعادل مساحة أوروبا تقريبا، ولم ينجح الأمر أيضا، لأنك قد تعثر على زعيم إرهابي وتقتله، لكنْ هناك عشراتٌ آخرون سيظهرون.
لذا، يوجد سوء فهم كبير للواقع الأفريقي، ولم نتعلم الدروس من الحرب في ليبيا أو أفغانستان، وغيرها من الحروب التي بدأت باسم مكافحة الإرهاب، والتي أدت في النهاية إلى كوارث حقيقية أضعفت الدول.
-
ما علاقة ليبيا بتأزم العلاقات بين فرنسا ودول الساحل، وخاصة مالي؟
تميز عام 2011 بلحظتين مهمتين في أفريقيا، تتمثل الأولى بالحرب في ساحل العاج، وقليل من يتذكرها، أما الثانية فهي الحرب في ليبيا.
لقد نظم الماليون مظاهرات ضخمة رفضا للحرب التي شنها حلف شمال الأطلسي ضد ليبيا، لأنهم كانوا يدعمون الرئيس الراحل معمر القذافي الذي كان لا يزال الممول الأكبر لأفريقيا بأكملها، والحقيقة أن العديد من البنيات التحتية الموجودة في واغادوغو وباماكو أنشأها الرئيس الليبي.
وكان الطوارق من مالي والنيجر جزءا من الفيلق الأخضر الذي كان يحمي القذافي، منذ فترات الجفاف الكبيرة في الثمانينيات، ومنذ تمرد الطوارق في التسعينيات، حيث تم تعيينهم من قبل الرئيس الليبي، وكانوا جزءا من الحرس الإمبراطوري.
وفي أغسطس/آب 2011، اقترحت قوات الناتو على الطوارق العودة إلى بلدانهم وترك القذافي، ولا نعرف ما قيل بالضبط آنذاك، لكن الطوارق الماليين والنيجريين تركوا بالفعل الرئيس الليبي، وهو ما تسبب في مشكلة في مالي، حيث أدت عودة هؤلاء الطوارق المسلحين والمدربين إلى تغيير الوضع مع الجيش المالي، الذي كان يعاني أساسا من التجهيز والتدريب.
-
هل تعتقدين أن ماكرون بدأ في ارتكاب أخطاء بروتوكولية في أول رحلة خارجية له بعد انتخابه، بسبب اختياره لقاء رئيس مالي في قاعدة عسكرية بدل العاصمة؟
بالفعل، حدث ذلك بعد 5 أيام فقط من تنصيبه، حيث توجه الرئيس الفرنسي مباشرة إلى قاعدة “برخان” العسكرية في جاو، وكأنها مقر إدارة فرنسية، للقاء نظيره المالي إبراهيم أبو بكر كيتا.
لقد كان الأمر غريبا جدا آنذاك، فبدل أن يظهر ماكرون كرئيس شاب يغير القواعد ويضع سياسة جديدة لفرنسا في أفريقيا، تصرف بشكل سيئ مع رئيس مالي الذي يكبره سنا، وفي العادة، يتغنى الأوروبيون والغربيون بقيمهم، لكن أفريقيا لها قيمها الخاصة كذلك، وعلى رأسها: احترام الأكبر سنا.
وبالتالي، تم اعتبار ما حدث كخطأ جسيم ولم يقدم رئيس الجمهورية إشارة إيجابية خلال زيارته. وبعد ذلك، يقول أبو بكر كيتا في خطابه بالعاصمة واغادوغو جملته الشهيرة “ليس لدى فرنسا سياسة أفريقية”.
-
خلال فترة الانقلاب في النيجر، أكد الشعب النيجري أنه لا يرغب بالوجود الفرنسي، فهل كان هذا نتيجة تراكمات للسياسة الفرنسية في البلاد أم أنه مرتبط بما حدث في دول الجوار في منطقة الساحل؟
هناك تراكم بالطبع، ثم هناك خصوصية النيجر، ولفهم هذا البلد الأفريقي، يجب الإشارة إلى أحداث بلدة تيرا غرب النيجر في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عندما اعترض المتظاهرون قافلة للجيش الفرنسي، واضطرت قوة “برخان” إلى إطلاق النار في الهواء، وهذا ما أدى إلى مقتل شخصين، وكانت تجربة سيئة جدا بالنسبة للنيجريين.
وما أزعجهم بشدة، هو الدعم غير المشروط الذي قدمته باريس للرئيسين محمد يوسفو ومحمد بازوم، لأنهم اعتبروا أن فرنسا تفرض عليهم رئيسا باسم الانتخابات الحرة والشفافة، لذا رحب النيجريون بالانقلاب الذي أطاح ببازوم، باعتبار أن فرنسا هي من وضعته كرئيس ولم يكن من اختيارهم.
وبدلا من محاولة المناقشة والتفاوض، اتخذت فرنسا على الفور تدابير المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس”، وأيدت سلسلة عقوبات صارمة ضد هذا البلد الذي يعد أحد أفقر الدول في العالم، كما أيدت التهديد بالتدخل العسكري إذا لم يتم إعادة بازوم إلى منصبه خلال أسبوع، وبالتالي، أشعلت هذه العقوبات والتهديدات البارود، وهو ما جعل النيجريين يطالبون فرنسا بمغادرة بلادهم.
-
رأينا أن فرنسا أرسلت قوات لحفظ النظام خلال أعمال الشغب التي شهدتها كاليدونيا الجديدة مؤخرا، في رأيك، هل تلجأ فرنسا دائما لاستخدام القوة لإدارة أزماتها في الخارج؟
لقد كانت إدارة الأزمة في كاليدونيا الجديدة مشابهة لما فعلناه في النيجر ومالي وحتى خلال مظاهرات السترات الصفراء، أي أننا نضع كل مقومات خروج الأوضاع عن السيطرة، ثم نرد باستخدام الطريقة الأمنية والسلطوية.
وهذا يدل على وجود نقص رهيب في الدبلوماسية منذ 7 سنوات، بسبب سياسة ماكرون التي تلجأ إلى الحلول الاستبدادية في كل مرة، وقد سلم ملف كاليدونيا الجديدة لوزير الداخلية الذي يعتبر وزير الحلول الأمنية وليس وزير الدبلوماسية الخارجية، وأعتقد أن الإليزيه يستمر في هذا النهج خوفا من أي تدخل أجنبي، لأن هذه البلاد جزء أساسي من مشروعه في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
وبما أن التدخل الأجنبي لا يستخدم سوى الثغرات، فقد ارتكبت باريس أخطاء فادحة، وتركت خطوط صدع ضخمة في كاليدونيا الجديدة، تسببت في انهيار الاقتصاد وسعر عملة النيكل.
-
ما أهداف فرنسا الخفية وسبب إصرارها على البقاء في أفريقيا؟
تفتقر فرنسا إلى الرؤية والإستراتيجية في كيفية إدارة علاقاتها مع الدول الأفريقية، وأعتقد أن الجيش الفرنسي أُنشئ على نموذج جيش العمليات الخارجية للتدخل في أفريقيا، نظرا لطبيعة معداته وخبراته وما إلى ذلك، وكان لدى الجيش مصلحة في البقاء هناك قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، بهدف التدريب واختبار المعدات والتجنيد، وهو أمر يعود لخطط اللوبي العسكري بشكل أساسي.
وعندما أمر الجنرال شارل ديغول بإنهاء الاستعمار للبلدان الـ14 الناطقة بالفرنسية، استقلت غينيا عام 1958، وتلتها دول أخرى إلى غاية 1960، لكن تم ذلك بشرط واحد لا يعرفه كثيرون، وهو أن تضم هذه الدول صوتها إلى صوت فرنسا، وهذا ما جعلها عضوا في مجلس الأمن، ومنحها أهمية بالغة على الساحة الدولية.
ومن خلال مستعمراتها السابقة، مثل كاليدونيا الجديدة، حصلت فرنسا على منطقة اقتصادية حصرية هائلة، وفي الأمم المتحدة، تمثل أفريقيا حوالي 60-70% من عبء العمل، وكتبت فرنسا 80% من القرارات المتعلقة بالقارة، لذلك، تمتعت بمكانة مهمة داخل الأمم المتحدة والمنظمات المتعددة الأطراف، وأدى في الأخير إلى صنع قوة فرنسا.