افريقيا

القصة الكاملة لدولة مالي.. من قبعة الفرنسي كاييه إلى حضن بوتين

منح الضباط الباريسيون مالي اسم “السودان الفرنسي” تمييزا لها عن السودان الآخر الذي كان تحت الإيالة البريطانية، لتموت بذلك تلك التسمية التاريخية التي تختصر كثيرا من عظمة مملكة مالي التي كانت تمتد على رقعة واسعة من انعطافة نهر النيجر إلى ضفاف المحيط الأطلسي، وكانت تلك أولى الضربات الفرنسية لهوية البلاد وتاريخها ومكانتها.

وخلافا للفتوحات الإسلامية التي دخلت البلاد سلما عبر قوافل التجار والدعاة، فقد كان الغزو الاستعماري الفرنسي للبلاد عبر حملات عسكرية هوجاء، ومع ما بين الاثنين من فوارق فالثابت أن الفتح الإسلامي والاستعمار الفرنسي كانا الأكثر تأثيرا في حاضر البلاد ومستقبلها.

ويمكن تقسيم مراحل الاستعمار الفرنسي في مالي إلى 4 محطات أساسية:

– مرحلة التهيئة والاستكشاف: بدأت منذ عام 1855 واستمرت حتى 1893، إذ بدأ الفرنسيون في بناء الحصون والمعسكرات في الجنوب المالي وعلى ضفتي نهر النيجر، استعدادا للسيطرة على البلاد التي كانت تملك سمعة “ذهبية” لدى الأوروبيين.

وقبل حملات الفرنسيين الاستكشافية، كان البريطاني مونغو بارك أول من وصل من الأوروبيين سنة 1795 إلى المنطقة، إذ حاول الوصول إلى تمبكتو لكنه لقي حتفه غرقا في نهر النيجر قبل تحقيق هدفه.

بيد أن تجربة الرحالة الفرنسي رينيه كاييه مثلت أول نجاح أوروبي في الوصول إلى المدينة “المقدسة” تمبكتو سنة 1828 والعودة منها إلى الديار، رغم أن المستكشف البريطاني ألكسندر غوردون لينغ كان بالفعل قد وصل إلى تمبكتو قبل ذلك بعامين (1826)، ولكنه فشل في تحقيق أمنيته بعد أن اخترمه سهم المنون وهو عائد إلى بلاده بعيد خروجه من تمبكتو.

ثم تسارعت بعد ذلك رحلات المستكشفين، فقد قام الرحالة الألماني هنري بارث في الفترة ما بين 1850م-1856م برحلة إلى تمبكتو ومناطق الهوسا والبورنو في النيجر، وعاد بمعلومات واسعة عن المنطقة ومساربها، قبل أن يأخذ الاستكشاف بعد ذلك في التسارع عبر البعثات الموسعة ذات الأهداف العسكرية المعلنة.

وقد وضع الفرنسيون اليد أول مرة على 4 هكتارات فقط اشتراها القائد الفرنسي لغرب أفريقيا الجنرال فيدرب من الملك سامبالا جالو سنة 1855 ليقيم عليها “قلعة مدينة” التي تعرضت لحصار من القائد المسلم الحاج عمر تال الفوتي سنة 1857، لكنه لم يستطع السيطرة عليها بسبب النجدة الفرنسية القادمة من السنغال.

كان البحث عن “الكنز” أحد أبرز الدوافع التي سوّغت للفرنسيين صرف نفقات هائلة للاستكشاف والحملات، وكانت “كنوز أحمدو” في مدينة سيغو العاصمة التاريخية لمملكة البمبارا هي الهدف من وراء الحملة العسكرية التي شنّها القائد الفرنسي أرشنار سنة 1890 على سيغو، وكلفت الخزينة الفرنسية حينئذ أكثر من مليون و400 ألف فرنك فرنسي وهو مبلغ ملياري في تلك الأيام.

بيد أن أرشنار فوجئ عندما استولى على سيغو بأن الكنز الموعود لم يزد على 100 كلغ من الذهب، وهو ما مثل خيبة أمل لجيش ونظام استعماري كان يتوقع جبالا من الذهب، وتلالا من المجوهرات في خزائن الملوك، لكنها لم تكن الخيبة الأخيرة التي ابتلعتها فرنسا في مالي، رغم أن الطريق إليها كلف كثيرا من الدماء والدمار والتشريد في المملكة الفولانية ذات التاريخ الراسخ.

وبالتوازي مع الحملة التي شنها أرشنار على سيغو، كانت فرنسا تعمل في الوقت ذاته على مسار آخر يضمن لها مزيدا من التوسع في المنطقة؛ فقد أبرمت في العام نفسه (1890) معاهدة مع بريطانيا توسّع بموجبها النفوذ الفرنسي في أفريقيا ليشمل منطقة حوض تشاد وما سمي الأراضي الأفريقية-الفرنسية.

– مرحلة الغزو وإدالة الممالك التقليدية: وقد بدأت مع عام 1893، وانتهت بالسيطرة التامة على البلاد سنة 1912، وكان من أبرز المؤشرات التي سبقت هذه المرحلة بناء قلعة ميدين (Médine) على ضفاف نهر السنغال، قبل الانتقال إلى مرحلة الغزو المباشر، وإطاحة الممالك السودانية، ومن بينها مملكة الفولان، وقد ارتكب الفرنسيون مجازر عديدة خلال حملاتهم العسكرية في تلك الفترة، وهي الحملات التي أسهم في إنجاحها الصراع بين الزعيمين أحمدو شيخو بن الحاج عمر تال والساموري توري، فبدلا من تحالفهما لمواجهة المستعمر، كان التخاذل يمهد طريقهما إلى نهاية مؤلمة.

وقد مكّن القضاء على الرجلين ووضع حد لمقاومتهما من فتح الطريق سريعا نحو المدن المالية الكبيرة واحدة بعد الأخرى، ومن ثم بدأ مسلسل سقوط المدن الكبرى بسيغو عام 1890، ونيورو 1891، وتمبكتو 1893، لترسم الدماء بذلك الصفحات الأولى من كتاب العلاقة بين باريس وبلاد الإمبراطور مانسا موسى.

ورغم سقوط كبريات المدن المالية خلال تلك المرحلة بأيدي الغزاة الفرنسيين، فإن سلاح المقاومة لم يتوقف، لكنه كان أقل عنادا في مواجهة المدفعية الفرنسية القاتلة، ومن أشهر أعلام المقاومة المالية الشيخ الحاج عمر الفوتي ونجله الشيخ أحمد بن الحاج عمر تال، والشيخ محمد الأمين درامي، وكذلك السلطان ساموري توري.

وفي منطقة أزواد كان للطوارق دور كبير في مقاومة المد الاستعماري على مرّ عقود، فقد أبادوا كتائب فرنسية عديدة منها على سبيل المثال كتيبة القائد أوب خلال معركة تيكابراتير في عام 1893، كما قاوموا الدخول الفرنسي إلى تمبكتو سنة 1893، وقتلوا القائد الفرنسي الكولونيل بوانييه مع عدد من ضباطه وجنوده في السنة نفسها، ولكن المقدم الفرنسي جوفر تمكن في العام ذاته من هزيمة الطوارق وبسط سيطرته على تمبكتو، وواصل تعقب فلول مقاتليهم حتى انتهت مقاومتهم بالكامل سنة 1916 بعد مقتل زعيمهم فهرون آغ الأنصار.

وجاء مقتل آغ الأنصار ليضع حدا للثورة التي كان يقودها في المنطقة ضد الفرنسيين، والتي كانت أبرز محطاتها معركة “فالينغي” في مايو/أيار 1916، وهي الواقعة التي قتل الرجل بعدها بنحو شهر تقريبا في إحدى المعارك مع القوات الفرنسية.

كما كانت ثورة قبائل بيليدوغو التي استمرت شهرين من سنة 1915 إحدى محطات المواجهة مع الاستعمار الفرنسي، وانتهت بمقتل قائدها موسى تراوري الذي أحرق على نفسه وزوجته وعدد من أنصاره مخزن البارود الذي أقامته ثورته.

ولم تغب قبائل الدوغون ذات التراث التنجيمي العريق عن المقاومة المسلحة ضد الفرنسيين، واستمرت مناوشاتهم مع القوة الفرنسية إلى حدود 1930.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى