سياسة

كيف تحولت عودة السوريين إلى تحد لتركيا؟

يستعد 6 ملايين سوري، يقيمون تحت بند الحماية المؤقتة في دول الجوار وأوروبا، للعودة إلى بلادهم، بعد أن أطاحت غرفة عمليات المعارضة السورية المسلحة بنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024.

ودعت الإدارة السورية المؤقتة فور تسلمها السلطة جميع الأشخاص، الذين فروا هربا من قمع النظام البائد، للعودة والمشاركة في بناء سوريا الجديدة، في ظل نظام ديمقراطي يحترم حقوق الجميع دون إقصاء.

وتتوقع الأمم المتحدة عودة نحو مليون لاجئ سوري خلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، بعد أن أصبح الطريق ممهدا لعودتهم عقب انتهاء عهد مظلم استمر 61 عاما من حكم البعث و53 عاما من سيطرة عائلة حولت البلاد إلى مسلخ بشري تعرض فيه مئات الآلاف من الأبرياء للقتل خارج سلطة القانون.

ويستكشف هذا التقرير الآثار المتعددة لهذا التحول الدراماتيكي، مسلطا الضوء على التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظر تركيا، ومتسائلا عن قدرة الاقتصاد التركي على التكيف مع هذا الواقع الجديد في ظل رحيل قوى عاملة ماهرة أصبحت جزءا لا يتجزأ من نسيجه الاقتصادي.

تركيا ونقص العمالة

في الأسابيع القليلة الماضية، تشهد معابر الحدودية التركية-السورية مثل جيلوة غوزو، وأونجو بينار، ويايلا داغي تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين، وسط مخاوف أرباب الصناعة التركية من تأثير محتمل، لمغادرة العمالة السورية المفاجئة أماكن عملها على واقع الإنتاج، مع عدم وجود بدائل محلية مؤهلة تحل مكانها.

ووفقا لوزير الداخلية التركي علي يرلي كايا، فإن عدد الذين غادروا تركيا إلى الآن تجاوز 53 ألف لاجئ سوري ينتمون لفئات عمرية مختلفة، في الوقت الذي تواصل فيه آلاف العائلات استعداداتها للعودة فور انتهاء أطفالها من العام الدراسي الجاري.

وفي اليوم التالي لهروب الأسد خارج البلاد، نشرت صحيفة “غازي عنتاب أولوسوم” تقريرا بعنوان: أين السوريون؟ نقلت فيه عن أحد أصحاب الورش التركية المنتجة في المنطقة الصناعية قوله “لم يلتحق العمال الذين يعملون في المصانع بعملهم -بلا سابق إنذار- منذ يومين”، وأشار إلى أن هذا الغياب المفاجئ من شأنه أن يعطل الإنتاج في أغلب المنشآت التي تخصهم، كما أن أغلب الورش الصناعية لجأت إلى إعادة ضبط إنتاجها وتخفيفه بشكل كبير.

وأشار أحد المنتجين إلى أن الوضع المفاجئ أجبره على تقليل الإنتاج بشكل كبير، موضحا “كان لدينا 8 عمال في الورشة، أما الآن فنحاول الصمود بـ3 أو 4 فقط، لقد أثر غياب العمال السوريين على قدرتنا في تلبية الطلبات بوقتها المحدد، مما تسبب بسلسلة من التأخيرات التي انعكست علينا وعلى عملائنا”.

حلب وغازي عنتاب.. توأمة المصالح والتقاليد

تاريخيا، تبدو العلاقة بين مدينة غازي عنتاب التركية ومدينة حلب السورية أقرب بكثير من المسافة التي تفصل بينهما على جانبي الحدود، فقد ربطت المدينتان وشائج توأمة قديمة، وعلاقات إنسانية وتقاليد مشتركة، ومصالح اقتصادية وتجارية متبادلة، دفعت معظم السوريين الذين غادروا مناطق شمال سوريا إبان حرب الأسد إلى اعتبارها الوجهة المفضلة لإقامتهم.

وتصنف المدينة اليوم بأكثر المدن التركية اكتظاظا بالسوريين، إذ بلغ عددهم -بحسب بيانات دائرة الهجرة- نحو 460 ألف سوري، 91% منهم من سكان مدينة حلب وريفها. وجاء ترتيبها الثاني بعد إسطنبول على صعيد إقامتهم، فقد استضافت الأخيرة -وفق تقرير لوكالة تخطيط إسطنبول “آي بي إيه”- نحو 550 ألف سوري، شكلوا ما نسبته 3.28% من إجمالي عدد سكان المدينة.

ويرى الخبير بقضايا التنمية البشرية بسام تركاوي المقيم في تركيا أنه ليس من الصعب فهم الحماس الذي أبداه السوريون منذ مطلع 2012 لاختيار غازي عنتاب مكانا للجوئهم، فالمدينة ببيئتها الاقتصادية والاجتماعية كانت أقرب المدن التركية إليهم على مدى تاريخ طويل.

وأوضح في حديثه للجزيرة نت أن سهولة الوصول إلى الخدمات الحيوية التي يحتاجونها، ووجود نموذج تنمية اجتماعية وفرته إدارة المدينة شمل قطاعات الصناعة والتجارة والتعاون المحلي والمدني، إلى جانب تسهيلات حكومية أخرى، شكلت جميعها عوامل ساعدت الذين كانوا يعتمدون في بداية اللجوء على مدخراتهم في الإنفاق، للانخراط بسوق العمل أو إنشاء مؤسسات تجارية أو صناعية صغيرة تطورت لاحقا إلى كيانات تميزت بأهميتها على مستوى اقتصاد المدينة.

وخلال فترة قصيرة، حصد السوريون وفق -تركاوي- نجاحات ملموسة سواء كعمالة ماهرة أو مستثمرين في مجالات التصنيع والتصدير، لا سيما في قطاعات الملابس الجاهزة، والمواد الغذائية، وغيرها من قطاعات الإنتاج، حيث قدمت دعما ملحوظا للاقتصاد التركي بلغت نسبته نحو 3%، في حين دعمت الصادرات التركية بنحو 5 مليارات دولار سنويا.

غازي عنتاب تصنف بأنها أكثر المدن التركية اكتظاظا بالسوريين، إذ بلغ عددهم نحو 460 ألف سوري (رويترز)

الشركات السورية في مقدمة الشركات الممولة أجنبيا

تحتل تركيا المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة الأميركية في صناعة السجاد، وبلغت حصتها السوقية نحو 40% تقريبا، علاوة على نجاحها في الصناعة الغذائية ومن بينها الحلويات التقليدية، إلى جانب إنتاجها للفستق، الذي بلغت قيمة ما صدرته في عام 2023 ما يقرب من 152 مليون دولار.

في حين تعتبر غازي عنتاب من أبرز المدن المصنعة والمصدرة على مستوى البلاد، إذ تتمركز فيها صناعة الملابس الجاهزة، والسجاد.

وخلال الأعوام الأخيرة، نجح السوريون في الوصول إلى أرقام لافتة بإسهاماتهم في النشاط الاقتصادي والتجاري للمدينة، ويشير التقرير السنوي لغرفة تجارة غازي عنتاب “جي تي أو” (GTO)، الذي سجل وجود 3083 شركة ذات تمويل أجنبي في عام 2023، إلى أن حصة الشركات السورية منها بلغت 2610 شركات، تلتها في المرتبة على التوالي الشركات العراقية، ثم الشركات الألمانية، فالفرنسية.

وبهذا الصدد، لفتت رئيسة بلدية غازي عنتاب الكبرى فاطمة شاهين إلى وجود مصانع تركية-سورية مشتركة، تم الاستفادة فيها من الخبرة السورية، مثل صناعة الأحذية، مضيفة “نحن نجيد صناعة الأحذية الرجالية، بينما هم أفضل منا في صناعة الأحذية النسائية”.

ويصف خبراء محليون سوق “نيزيب” مركز صناعة الأحذية والنعال، بالمنافس الأكبر للشركات الصينية في السوق العالمي، إذ تعمل فيه -بحسب تيفيك بايندير نائب رئيس غرفة صناعة الأحذية في غازي عنتاب- نحو 500 شركة، تنتج ما يقرب من مليوني زوج من النعال والأحذية يوميا، مؤكدا وجود حالة تنافسية باتت الشركات الصينية المصنعة للأحذية تخشاها “لأن لدينا إمكانات جادة وجيدة للغاية في هذا المجال”، على حد قوله.

Syrian refugees work in a Syrian owned clothing factory in Gaziantep, on December 10, 2024. Islamist-led rebels declared on December 8, 2024, that they have taken the Syrian capital in a lightning offensive, sending President Bashar al-Assad fleeing and ending five decades of Baath rule in Syria. (Photo by Yasin AKGUL / AFP)
لاجئون سوريون يعملون في مصنع ملابس سوري بغازي عنتاب في 10 ديسمبر 2024 (الفرنسية)

ومن جهة أخرى، حظيت العمالة السورية -وفق فاطمة شاهين- بأهمية بالغة نظرا لإتقانها اللغتين العربية والإنجليزية بشكل جيد، ووصفت دورها في التجارة وفتح أسواق خارجية جديدة، بالنشط.

وتقدر مصادر محلية وجود نحو 10 آلاف عامل سوري، يعملون بشكل رسمي في قطاعات اقتصادية وخدمية مختلفة، في حين يعمل الآلاف بشكل غير رسمي بعيدا عن أعين الرقابة.

وأوضحت دراسة، نشرتها منظمة العمل الدولية في فبراير/شباط 2023 عن اتجاهات عمل السوريين، أن أغلبهم يعمل في قطاعات النسيج والصناعة والبناء والخدمات وصيانة وتصليح السيارات، وصناعة المنتجات الجلدية، وقطاع الأغذية.

وبينت الدراسة أن عملية توظيف العمال السوريين بلغت ذروتها في عام 2018، إذ وصلت إلى 1.2 مليون سوري من حيث المشاركة في القوى العاملة في تركيا، أغلبهم من الذكور.

وفي هذا الإطار، يرى الإعلامي التركي جلال ديمير أن أهم ما تميزت به غازي عنتاب، وكان سببا في نجاح علاقتها مع اللاجئين والاستفادة من مقدرتهم، أنها لم تنتظر طويلا لدمجهم في المجتمعات المحلية، بل سعت مبكرا لتحقيق هذا الهدف في أهم قطاعين حيويين هما التعليم والعمل.

وأوضح -في حديثه للجزيرة نت- أن توفر المناخ الآمن والمناسب، ووجود طاولة مخصصة لرجال الأعمال السوريين في غرفة التجارة -يشكلون 10% من أعضاء الغرفة- لمعالجة ما قد يواجههم من صعوبات ومشكلات، أتاح للاستثمارات السورية أن تتفوق على مثيلاتها، وتصل إلى المرتبة الأولى على صعيد الاستثمار الأجنبي في المدينة.

صعوبة توفر البدائل

وفي حين تثير عودة السوريين مخاوف بعض قطاعات الاقتصاد، مثل قطاع النسيج وقطاع الزراعة اللذين يعتمدان بشكل كبير على العمالة السورية، نقلت مصادر صحفية تركية عن مسؤولين انزعاجهم لمغادرة العمالة السورية التي يعتمدون عليها في منشآتهم.

وقال رئيس مجلس إدارة شركة “غييمكنت” التركية للمنسوجات، مظفر جفيزلي، إن هناك صعوبة في العثور على موظفين للعمل في هذا القطاع، وشبابنا لا يحبذون العمل فيه، وكنا نعمل على سد الفجوة من خلال العمالة السورية.

ولأن السوريين يشكلون نحو 20% من إجمالي العاملين في قطاع المنسوجات التركي البالغ عددهم 1.5 مليون عامل، ومع أن عودتهم في الوقت الراهن تبدو بطيئة، فإن جيفزلي حذر من أن ارتفاع عدد العمالة المغادرة، في المستقبل، سيؤثر سلبا على صناعة النسيج، وسيكون من الصعب حينها العثور على موظفين في قطاعات النسيج والأثاث والبناء.

وفي السياق، قال إسماعيل يلماز عضو مجلس قطاعات جمعية المصدرين الأتراك ورئيس جمعية مصدري نباتات ومنتجات الزينة إن القطاع الزراعي في حالة من الذعر بسبب مغادرة العمال السوريين.

وأوضح، في تصريح لصحيفة حرييت التركية، أن المشكلة ليست في الأجور، إذ يحصل السوريون على الأجور نفسها التي يحصل عليها المواطنون الأتراك، بل في صعوبة إيجاد بدائل للعمل في الزراعة، خاصة مع تراجع اهتمام الشباب الأتراك بهذا المجال.

وبدوره، حذر رئيس غرفة تجارة وصناعة أنطاليا يوسف حاجي سليمان من أن فقدان العمالة السورية سيؤثر سلبا على القطاع الزراعي الذي يعاني بالفعل من صعوبات في تأمين العمالة المحلية. مشيرا إلى أن هذا التأثير قد يمتد على المدى القصير والطويل، مما يهدد استمرارية إنتاجه.

بالمقابل، دعا علي شاندير، عضو مجلس إدارة اتحاد الغرف والبورصات السلعية في تركيا، إلى عدم الذعر من نقص العمالة الناتج عن عودة السوريين إلى بلدهم، وقال “من الممكن معالجة القضية بطرق مختلفة، لا سيما أن عودتهم لن تكون دفعة واحدة، مما يتيح للقطاعات الاقتصادية فرصة للتكيف”.

وفي موقف مماثل، استبعد رئيس غرفة صناعة غازي عنتاب عدنان أونفيردي -في لقاء صحفي- أن تؤدي مغادرة اللاجئين السوريين إلى انهيار الصناعة في المدينة، قائلا “إذا غادر السوريون، فإن صناعة غازي عنتاب ستواجه صعوبة لفترة، لكنها لن تنهار، لافتا إلى أن المدينة لديها شباب مؤهلون يمكنهم ملء الفراغ في سوق العمل”.

السوريون يشكلون نحو 20% من إجمالي العاملين في قطاع المنسوجات التركي البالغ عددهم 1.5 مليون عامل (الفرنسية)

شراكة سورية-تركية حقيقية

ومن جانب آخر، يشير أغلب خبراء الاقتصاد إلى أن السوريين بالنسبة للجانب التركي، باتوا يمثلون جانب الشراكة الحقيقية في عملية النمو الاقتصادي الذي تشهده بلادهم، حيث يقدر عدد المنشآت المسجلة في غرفة التجارة والصناعة التركية نحو 25.5 ألف منشأة، كما بلغ إجمالي الشركات التي ساهم في إنشائها سوريون منذ عام 2010 حتى منتصف عام 2023 نحو 10 آلاف و332 شركة، بلغت قيمة رأسمالها ما يقارب 632 مليون دولار.

وباستثناء إسطنبول، تضم 8 ولايات تركية (عنتاب، مرسين، أنطاكيا، شانلي أورفة، كلس، أضنة، كهرمان ماراش، ماردين) 40% من الشركات التي يملكها أو يشارك فيها سوريون، كما تعتبر مركزا لنحو 40% من الاستثمار الكلي للسوريين في تركيا.

ونقلت صحيفة “تركيا غازيتاسه” عن عبد الغفور عصفور رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين العرب أسياد قوله إن استثمارات رجال الأعمال السوريين في تركيا تجاوزت 10 مليارات دولار، ووفروا منفردين أو بالتشارك مع الأتراك، ما بين 450 إلى 500 ألف فرصة عمل في تركيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى