سياسة

حكاية المصافحة ودلالاتها.. ماذا تريد ألمانيا وفرنسا من سوريا؟

بتفويض من الاتحاد الأوروبي، جاءت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، ونظيرها الفرنسي جان نويل بارو، إلى دمشق للقاء قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع. حصلت الوزيرة الألمانية على تغطية صاخبة لزيارتها، لتصبح هي القصة، لا نجاح الثوار السوريين في الإطاحة بنظام الأسد (الأب والابن) الذي جثم على صدور السوريين لنصف قرن، لكن ردود الأفعال الصاخبة كانت لأسباب هامشية، أرادت من خلالها أوروبا إيصال رسائل محددة للإدارة السورية الجديدة أولا، وللعالم أجمع من ورائها.

فقد جاءت الوزيرة في زي “غير رسمي”، وعرضت أمام الكاميرات قميصًا واقيًا من الرصاص، والتقت الحكوميين السوريين بوجه وصفه المتابعون بأنه “متجهم”، كما جاءت بخطاب وُصف بالاستعلائي، لمحاولته فرض وصاية على شعب رزح تحت الاستبداد لعقود، ويحاول أن ينفض الغبار والدمار والقتل عن ذاكرته ابتداء، وما يمكن أن يمتد للعمران والإنسان على السواء.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

قصة السجين السوري.. هل انخدعت “كلاريسا وارد” أم تعمّدت تزييف الحقيقة؟

list 2 of 2

كيف سيغير سقوط الأسد شكل المنطقة؟

end of list

لكن كثيرًا من الصحف الألمانية، والأوروبية، والأميركية، وحتى حسابات وسائل التواصل الاجتماعي، أفردت الصفحات والأوقات لتغطية مفادها أن الوزيرة “ذهبت للمدافعة عن حقوق النساء والأقليات، لكنها غادرت من دون أن تسلم على الشرع باليد!”، ما أطلقت عليه صحيفة بيلد الألمانية “فضيحة المصافحة”.

إعلان

جاءت الزيارة ضمن الحركة الدبلوماسية النشطة التي تشهدها دمشق منذ هروب الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقال الأوروبيون إنها تأتي بهدف دعم استقرار المنطقة وتعزيز الانتقال السياسي السلمي للسلطة في دمشق، ومحاولة فتح صفحة جديدة من العلاقات السياسية بين دول أوروبا والإدارة الانتقالية السورية، تمثلت في استقبال العديد من الوفود الدبلوماسية العربية والدولية.

لكن أبرز هذه الزيارات كان استقبال قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، وزيرَي خارجية ألمانيا وفرنسا في قصر الشعب بدمشق، صباح يوم الجمعة الموافق 3 يناير/ كانون الثاني الجاري. وهو اللقاء الذي وصف بالأول من نوعه على هذا المستوى الرفيع بين الشرع ومسؤولين أوروبيين، حيث  كان بارو وبيربوك هما أول من وصَل من وزراء الاتحاد الأوروبي إلى دمشق منذ نجاح فصائل المعارضة السورية المسلحة في إسقاط النظام.

ورغم نبرة التصريحات الألمانية والفرنسية التي أعقبت هذه الزيارة وأثارت العديد من التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الاتحاد الأوروبي من جهة وسوريا من جهة أخرى، تركز الجدل الدائر في الصحافة الألمانية والعالمية حول “المظاهر الشكلية”، مثل مسألة عدم مصافحة الشرع لوزيرة الخارجية الألمانية، وهو ما وصفته الكاتبة الصحفية نادية أبو المجد بأنه حالة من الترقب الشديد داخل المجتمع الأوروبي تصل إلى حد التربص بحكام سوريا الجدد وطريقة تعاملهم مع المرأة والأقليات.

ويأتي ذلك على الرغم من تصريح بيربوك بأن عدم مصافحة القائد السوري لها كان أمرًا متوقعًا، وأنها ذهبت إلى هناك وهي تعلم أن المصافحات ليست أمرًا معتادًا.

في الوقت ذاته، تجاهلت المنصات الإعلامية الدولية ظهور بيربوك في طائرة عسكرية وهي تستعرض سترة واقية من الرصاص أمام الكاميرات قبيل وصولها إلى دمشق، وهو مظهر شكلي قد يرمي هو الآخر إلى رمزية سياسية توحي بعدم الأمان في سوريا الجديدة، فضلًا عن ارتداء وزيرة الخارجية الألمانية زيًا غير رسمي خلال اللقاء الدبلوماسي مع أعلى قيادة سياسية في سوريا.

إعلان

هذا بخلاف القائمة الطويلة من المطالب التي جاء بها الوزيران، والتي وصفها الباحثون السياسيون بأنها تحمل رسائل مضمرة، كما ترهن مسألة تقديم المساعدات الأوروبية ورفع العقوبات عن سوريا -وهي حاجة إنسانية ملحة في المقام الأول- بمجموعة من الشروط والإملاءات الرامية إلى فرض الهيمنة على الدولة السورية الجديدة والانتقاص من سيادتها، وهو ما نتناوله بالبحث في هذا التقرير.

قائمة المطالب الأوروبية من سوريا الجديدة

أوروبا لن تقدم أموالًا للهياكل الإسلامية الجديدة.

  • وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك

 

في مؤتمر صحفي أعقب لقاء وزيرة الخارجية الألمانية مع الشرع، صرحت بيربوك أنها أبلغت الإدارة السورية الجديدة أن أوروبا ستقدم الدعم الكامل لدمشق لتجاوز المرحلة الانتقالية، لكنها لن تقدم أموالًا “للهياكل الإسلامية الجديدة”، على حدّ تعبيرها. وفي مُداخلة مع قناة “إي دي آر” الألمانية، قالت وزيرة الخارجية إن ألمانيا والاتحاد الأوروبي لن يكونوا داعمين لعملية أسلمة المجتمع السوري، حيث حذرت بيربوك الإدارة الانتقالية السورية من محاولات أسلمة النظام القضائي أو التعليمي.

أعادت هذه المصطلحات، وهذا الشكل من أشكال فرض الوصاية إلى الأذهان الأبعاد الاستعمارية التي تحاول أن تفرض على الشعوب “غير الغربية” شكلا محددا من أشكال الحكم، ونمطا محددا من أنماط عيش المجتمع عبر تشكيل أولوياته عبر استخدام الألفاظ البرّاقة والتوصيفات الفضفاضة التي تعمل في جوهرها على تمرير سياسات تهدف إلى إعادة هندسة المجتمعات وفق معايير ليبرالية غربية.

في هذا السياق لا يمكن تجنب عقد المقارنة بين موقف وزيرة الخارجية من إسرائيل، التي تعرف نفسها للعالم باعتبارها “دولة يهودية” دينية، بل وتصنفها المؤسسات الحقوقية الدولية، بل وبعض المؤسسات القضائية الدولية، باعتبارها نظام فصل عنصري، يفرّق بين مواطنيه على أساس الدين. تدعم بيربوك “الإجراءات” الإسرائيلية في غزة، بما فيها “قصف المستشفيات ومناطق المدنيين”، وهو تناقض في المبادئ لا يحتاج لكثير شرح ولا كشف.

إعلان

أما في سياق حديثها عن العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا، فصرحت وزيرة الخارجية الألمانية بأن رفع العقوبات يظل مرهونًا بالمضي قدمًا في العملية السياسية، دون إعطاء أي إطار زمني للوقت الذي من المتوقع فيه أن ترفع العقوبات عن كاهل سوريا التي أثقلتها الحروب والصراعات. قائلة “سنستمر في الحكم على هيئة تحرير الشام بناء على أفعالها، بالرغم من شكوكنا”.

وذلك على الرغم من أن سبب فرض العقوبات على سوريا كان نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وما فعله بحق شعبه من قتل واعتقال وتهجير، وهو ما دعا عددا من المحللين لبيان حقيقة أن زوال النظام السابق يعني انتفاء الأسباب التي أدت لفرض العقوبات، لكن يبدو أن وزيرة الخارجية الألمانية أرادت استثمار هذه الورقة لأبعاد أخرى لا ترتبط بالمسبب الرئيس للعقوبات.

وفور وصولها إلى العاصمة السورية دمشق، أفادت بيربوك في حوار بأن الوقت قد حان لتغادر روسيا قواعدها العسكرية في سوريا، متهمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه كان من أكبر الداعمين لنظام بشار الأسد وقد أمّن له الغطاء اللازم لممارسة جرائمه المرتكبة في حق الشعب طوال فترة الحرب الأهلية السورية. وأضافت “يجب أن تشارك كل الطوائف الدينية والعرقية رجالًا ونساء في عملية صياغة الدستور الجديد وفي الحكومة السورية المستقبلية”.

على الجانب الآخر، نشر وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو، على صفحته الرسمية بموقع “إكس”، قائلًا إن فرنسا وألمانيا تقفان إلى جانب الشعب السوري بجميع طوائفه، مشيرًا إلى أن هذه الزيارة تأتي في سياق دعم الانتقال السلمي السياسي في دمشق من أجل خدمة السوريين واستقرار المنطقة. وكان بارو قد بدأ زيارته إلى دمشق بزيارة ممثلي الطوائف المسيحية، وشدد في تصريحاته التي أعقبت اللقاء على أن بلاده تقف إلى جانب المسيحيين في سوريا، كما أكد على الحاجة لتقديم ضمانات موثوقة للأكراد ودمجهم بشكل كامل في العملية السياسية باعتبارهم حلفاء فرنسا.

إعلان

 

من مجمل هذه التصريحات، نستطيع أن نستخلص القائمة الطويلة للمطالب الأوروبية من الإدارة السورية الانتقالية، والتي جاءت مغلفة بتصريحات دبلوماسية على غرار تعليقات وزيرة الخارجية الألمانية عن أهمية مراعاة حقوق النساء والأقليات ومشاركة جميع طوائف المجتمع السوري في العملية السياسية، وما نشرته على صفحتها الرسمية بموقع “إكس”، من أن هذه الزيارة الفرنسية الألمانية جاءت نيابة عن الاتحاد الأوروبي، في إشارة واضحة إلى أن فتح علاقات سياسية جديدة بين الاتحاد الأوروبي وألمانيا من جهة وسوريا من جهة أخرى، بات أمرا ممكنا.

 

رسائل ودلالات

في كتابه “بارونات المال والأعمال”، أورد الدكتور عبد المعين محمد طاهر الشواف فصلًا كاملا عن الخطاب السياسي والثقافي ما بعد الاستعماريّ، وهو مرحلة جديدة تالية لمرحلة الاستعمار التقليدي، حيث كان من المفترض أن تتخلص الدول الاستعمارية من نبرتها الاستعلائية الساعية إلى فرض الهيمنة على الآخر وإخضاعه، إلا أن هذه النبرة لا تزال مسيطرة على الخطاب السياسي حتى وقتنا هذا. وهي الفقرة التي تنطبق بوضوح على النبرة الاستعلائية الآمرة التي جاءت على لسان وزيرة الخارجية الألمانية في تصريحاتها الأخيرة.

عن ذلك يقول الباحث السياسي مؤيد غزلان قبلاوي في حوار مع الإعلامي محمد كريشان في برنامج “مسار الأحداث” المذاع على قناة الجزيرة، إن التصريحات الألمانية والفرنسية جاءت بالعديد من الإملاءات الساعية لفرض الهيمنة والوصاية على الإدارة السورية الجديدة، وهو ما وصفه بـ “التعدي على السيادة الوطنية للدولة”.

إعلان

مضيفًا أن التشديد على الاهتمام بحقوق النساء والأقليات ووضعهم في الأولوية على الرغم من الوضع القاسي الذي يعيشه الشعب السوري في واقع ما بعد الحرب، يعد في ظاهره بادرة إيجابية، إلا أن تلك الشروط الأوروبية لا تأخذ بعين الاعتبار الإطار الزمني الذي تحتاجه الإدارة الانتقالية الحالية لمحو آثار 53 عامًا من الحكم الطائفي لنظام حافظ وبشار الأسد، وهو ما يضع تحديات كبرى أمام إدارة الشرع من أجل خلق بيئة بديلة قائمة على وحدة جميع فئات المجتمع السوري.

كما يقرأ محللون هذا الخطاب بوصفه محاولة لإيصال رسائل مباشرة للإدارة السورية الجديدة، بأن قبولهم في المجتمع الدولي مرهون بعدة التزامات، وأن عدم تحقيق تلك الالتزامات سيعني محدودية في التعامل والتعاطي الدبلوماسي والاقتصادي وما يتبعه من تعاملات على مستويات عدة، وقد يعني أيضا سعيا لمحاولة بعض الأطراف الخارجية لإزاحة الإدارة السورية الجديدة وتهميشها عبر طرح حلول ومعطيات ميدانية جديدة تُضعف من موقف الإدارة الجديدة.

إذن، يضع التشديد الأوروبي، على ضرورة بدء العملية السياسية السورية من مارس/آذار القادم طبقات أخرى من التعقيد على الإدارة الحالية، خاصة بعدما ترك النظام البائد لبشار الأسد 70% من مجمل سكان سوريا يعانون الحاجة الماسة للطعام والشراب والاحتياجات الأساسية. وكان أحمد الشرع قد صرح بأن صياغة دستور جديد للبلاد عملية صعبة قد تحتاج إلى 3 سنوات، في حين وضع الشرع حيزًا زمنيًا قدره 4 سنوات لإجراء الانتخابات الرئاسية، وذلك لأنها عملية تتوقف على العديد من العوامل والتحديات، قد يكون أهمها أن إدارة العمليات العسكرية لم تُخضع بعد كامل الأراضي السورية لسيطرتها، مما يجعل استقرار البلاد بشكل يتيح إجراء انتخابات رئاسية قد يستغرق سنوات.

الأمر الثاني، كان ضرورة إجراء إحصاء دقيق لعدد السكان السوريين لضمان مشاركتهم الفاعلة في الانتخابات الرئاسية، سواء كانوا داخل البلاد أو خارجها. إذ إن هناك صعوبة في حصر عدد سكان سوريا بدقة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، خاصة مع تضارب التقارير التي تناولت تقديرات أعداد السكان، لكن في ضوء المعلومات المتاحة نجد تقديرات البنك الدولي عام 2021، تشير إلى أن عدد سكان سوريا حوالي 21 مليون نسمة، في حين وردت أعداد السكان وفقًا لمركز جسور للدراسات عن نفس العام، حوالي 26 مليون نسمة، 16 مليونا منهم داخل البلاد، و8 ملايين مغتربون في أوروبا ودول الجوار، هذا إلى جانب ما لا يقل عن مليون شخص بين قتيل ومفقود.

إعلان

في الوقت ذاته، تأتي مسألة رهن إزالة العقوبات الأوروبية -والتي هي مسألة إنسانية تخص الشعب السوري- بالمضي قدمًا في العملية السياسية، وهو أمر تناولته مجلة “فورين آفيرز الأميركية” في تقرير مطول بعنوان “لا تكرروا أخطاء أفغانستان في سوريا”، قد شارك في كتابته 3 محللين سياسيين في “مجموعة الأزمات الدولية”، هم ديلاني سيمون وغرايم سميث وجيروم دريفون.

ويشير التقرير إلى أن العقوبات الأوروبية المفروضة على مجالات الطاقة والبنوك والاتصالات والقيود التي وضعت على استيراد السلع الأميركية وما نتج عنها من فرض حظر تجاري شبه كامل على سوريا، لم تعد ذات معنى، خاصة وأن تلك العقوبات لا علاقة لها بالإدارة الانتقالية الحالية، لكنهم أجبروا عليها ضمن إرث النظام البائد لبشار الأسد، إذ فرضت العقوبات على الدولة السورية بعد قمع المظاهرات الشعبية التي اندلعت عام 2011، وبزوال السبب الرئيسي وصعود المعارضة السورية إلى السلطة من المفترض أن تزول العقوبات.

وفي هذا السياق، تطرق تقرير “فورين آفيرز” إلى المقارنة التي يصر المجتمع الدولي الأوروبي على عقدها بين هيئة تحرير الشام وطالبان، مشيرًا إلى أن نموذج سوريا يختلف كليًا عن أفغانستان. ففي مقابل ما وصفوه بـ”تشدد طالبان”، نجد هيئة تحرير الشام تتعهد بحل نفسها لتنخرط في الهياكل الحكومية الرسمية، كما أبدت مرونة ورغبة في التواصل السياسي مع المجتمع الدولي، وقد أكد الشرع في مقابلاته التلفزيونية المختلفة أنه لا يسعى لأن يحكم سوريا بعقلية الجماعات، وتعهد باحترام حقوق المسيحيين والعلويين ومختلف الأقليات بالمجتمع السوري.

والجدير بالذكر، أن الإدارة الانتقالية السورية بقيادة أحمد الشرع التقت منذ أيام وفدًا من المرشدين الروحيين للطوائف المسيحية في دمشق، مؤكدة على أن حقوق كافة طوائف المجتمع مكفولة في سوريا، كما عقدت الإدارة مباحثات مع قوات سوريا الديمقراطية المعروفة باسم “قسد”، والتي تأسست عام 2015 وتعد جزءًا من المشروع الكردي المعروف باسم “الإدارة الذاتية”.

إعلان

في الوقت ذاته، حمّل خبراء مجموعة الأزمات الدولية مسؤولية ما آلت إليه الأمور في أفغانستان إلى تأخر المجتمع الدولي في حسم موقفه من صعود طالبان إلى الحكم عام 2021، وهو ما نتج عنه دفع أثمان باهظة، حيث تفاقمت أزمة الفقر ووقف الشعب على حافة المجاعة، وعانت أفغانستان من عزلة دبلوماسية تحت وطأة العقوبات الأوروبية، ورغم ذلك لم تنجح تلك الإستراتيجية المتبعة في جعلها دولة أكثر اعتدالًا، بل جادل التقرير بأن احتواء أفغانستان دوليًا والتفاوض معهم كان من شأنه أن يحفظ حقوق النساء والأقليات تحت ستار من الأعراف الدولية.

تقليص النفوذ الروسي.. مطلب أساسي أم هامشي؟

على مدار أكثر من 13 عاما من الصراع، تدخلت العديد من القوى الفاعلة الخارجية داخل المشهد السوري لخدمة مصالحها الإستراتيجية والجيوسياسية، وجاءت على رأسها روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، الذي اتخذ من سوريا مركز ثقل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإحدى أقوى مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.

على الجانب الآخر، يشير وائل علوان، الباحث بمركز جسور للدراسات، إلى أن الولايات المتحدة هي الأخرى سعت لخلق مراكز نفوذ إستراتيجية شمال شرق سوريا، خاصة في المناطق التي خضعت لسيطرة فصائل الأكراد الذين نالوا الدعم الأميركي الكامل، وقد انطلقت الولايات المتحدة من هناك للسيطرة على مصادر الطاقة والنفط، ومجابهة النفوذ الروسي الداعم للنظام البائد لبشار الأسد، وذلك بالتزامن مع تقليص النفوذ الإيراني داخل سوريا.

وبالعودة إلى الخلفية السياسية التي أفرزت الوضع السوري الراهن، نجد أن أوروبا تعتبر وجود القواعد العسكرية الروسية تهديدًا إستراتيجيًا خطيرًا، الأمر الذي يجعل من تقليص النفوذ الروسي في سوريا ركيزة أساسية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي.

فوفقًا لدراسة أعدها مركز جسور للدراسات، بلغ عدد المواقع العسكرية للقوى الخارجية الفاعلة داخل روسيا حوالي  830 موقعًا عسكريًا، منها 105 مواقع تحت السيطرة الروسية، تتراوح بين 20 قاعدة عسكرية و85 نقطة عسكرية. وتعد قاعدة طرطوس البحرية على ساحل البحر المتوسط، وقاعدة حميميم الجوية، هما أهم القواعد العسكرية الروسية، حيث ذكرت المنشأتين في “العقيدة البحرية” الروسية الثانية والثالثة باعتبارهما أهم مراكز النفوذ على الجانب الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وهي القواعد ذاتها التي قصدتها وزيرة الخارجية الألمانية بتصريحها سابق الذكر، حيث أشار تقرير وكالة “بلومبيرغ” الأميركية إلى أن خروج روسيا من القاعدتين العسكريتين يعد ضربة قاصمة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين داخل الشرق الأوسط، كما سيجعل من الصعب على روسيا إدارة عملياتها العسكرية داخل أفريقيا، وهو ما تسعى إليه الدول الأوروبية حاليًا بقيادة الاتحاد الأوروبي.

إعلان

 

وكانت وكالة بلومبيرغ قد أفادت أن دول مجموعة السبع الصناعية ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تسعى حاليًا للبحث عن طرق لإمداد الدولة السورية باحتياجاتها من الغذاء والنفط كبديل عن الواردات الروسية، وكانت أوكرانيا من أوائل الدول الأوروبية التي بادرت وأرسلت في الشهر الماضي شحنة من القمح إلى دمشق في محاولة لبناء جسور التواصل مع القادة الجدد للإدارة السورية الانتقالية.

في الوقت ذاته، أتت تصريحات أنالينا بيربوك الداعية لخروج القواعد العسكرية الروسية من سوريا متناقضة بشكل صارخ مع إفادات المتحدث الرسمي باسم “وزارة الخارجية الألمانية”، الذي صرح قائلًا إن القواعد العسكرية الروسية داخل سوريا أمر تحدده الإدارة السورية وليس ألمانيا، مشيرًا إلى أن ألمانيا تحترم السيادة الكاملة للدولة السورية الجديدة.

وهو ما علق عليه زياد ماجد أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية قائلًا إن تلك التصريحات المتضاربة تعود لطبيعة عملية توزيع الأدوار داخل الحكومة الألمانية الائتلافية التي تتكون من قوى سياسية مختلفة، فما صرح به المتحدث باسم الخارجية الألمانية يندرج ضمن إطار التصريحات الدبلوماسية، في حين تحمل تصريحات وزيرة الخارجية الألمانية رسالة خفية مفادها ضرورة إعادة النظر في الاتفاقيات التي عقدها نظام الأسد البائد الخاصة بالقواعد العسكرية الروسية، وتحديدًا الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط والتي تمثل تهديدًا إستراتيجيا لأوروبا.

ما زالت المباحثات جارية بين موسكو وإدارة الشرع الانتقالية بشأن استمرار بقاء الوجود الروسي داخل سوريا الجديدة، وبالتالي من المبكر الحديث عن نتائج تلك الحركة الدبلوماسية النشطة في سوريا، ورغم ذلك يشير الباحث السياسي مؤيد غزلان قبلاوي، أن الخروج الروسي من القواعد العسكرية في سوريا ليس ضمن الشروط الأساسية لإعادة العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا على أن دمشق ليست في وضع يسمح لها بمعاداة دولة عظمى مثل روسيا وفقًا لإملاءات خارجية، بل تسعى الإدارة السورية الجديدة نحو إقامة علاقات متوازنة مع الجميع  مما يساعدها في عملية إعادة الإعمار ويحفز التعافي السوري من مرحلة الحرب الطويلة والمرهقة.

إعلان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى