“حصار داخل حصار”.. إسرائيل تقطع أوصال قطاع غزة بالمحاور والمعازل
ما إن بدأت إسرائيل حربها البرية في غزة وطالبت سكان محافظتي غزة وشمالها بإخلاء المنطقة والاتجاه نحو ما أسمته “المنطقة الإنسانية” في مواصي خان يونس، حتى أعلن البعض بدء مخطط تهجير واسع للفلسطينيين من قطاع غزة، واتجهت الأنظار فورا إلى منطقة رفح التي تجمع فيها أكثر من نصف الفلسطينيين في القطاع حيث تكاثرت الأنباء عن تهجير مرتقب إلى سيناء.
وتحدث ناطقون رسميون باسم الحكومتين الإسرائيلية والأميركية عن خطط لتوزيع الفلسطينيين تارة في شبه جزيرة سيناء وأخرى في أرجاء مصر والعالم. وبعد ظهور موانع منها صمود الفلسطينيين واعتراض مصر وانتقادات عالمية متزايدة، بدأ التركيز من جديد على ما يسمى “محور نيتساريم” والحزام الأمني على طول الحدود بين القطاع والأرض المغتصبة.
ومع تنامي المقاومة والاعتراض على مخطط التهجير كثر الحديث الإسرائيلي عن معاقبة الفلسطينيين بإبعادهم، ليس فقط عن شمالي غزة وإنما أيضا عن “محور فيلادلفيا” على الحدود مع مصر. ومع الوقت صار التركيز يتزايد على حشر سكان القطاع في “المنطقة الإنسانية” الضيقة والعمل قدر الإمكان على إبقاء الآخرين في معازل متنوعة لم يكن معلوما على وجه اليقين كيفية إنشائها ولا فرص نجاح مخططاتها.
واليوم بعد أكثر من 400 يوم على الحرب صار لتعبير “المحاور” معان تختلف عن كل ما عرفناه سابقا. فبعد أن كانت مجرد طرقات للتحكم صارت “بمعايير غزة ومساحتها” عوالم متنوعة الأغراض والدلالات. واختلطت في الأمر مخططات تدعي أغراض أمنية مثل “خطة الجنرالات” وأخرى تستعيد منهج أرض إسرائيل الكاملة بعرض أهداف استيطانية واضحة، وصارت تعابير محاور “نيتساريم” و”فيلادلفيا” و”مفلاسيم”، وربما لاحقا “كيسوفيم”، مجرد إشارات إلى مخططات مزدوجة الغايات، أمنية استيطانية على حد سواء.
ورغم أن إعادة الاستيطان في غزة كان غاية عند عتاة المتطرفين فإن الوضع سرعان ما تغير ليغدو هدفا عند ساسة من الليكود كانوا يعتبرون أنفسهم عقلانيين. وبمعنى من المعاني انتقلت فكرة إعادة الاستيطان في قطاع غزة من الهامش إلى المركز وبسرعة كبيرة ومن دون التمييز بين غرضها الأمني وغرضها العقائدي وربما استغلال التمازج التاريخي بينهما.
وبحسب تقرير روبيك روزنتال في “هآرتس”، تحت عنوان “أرض إسرائيل من دون عرب من النهر إلى البحر” فإن “هذه قصة إسرائيلية معروفة: ما كان بالأمس “خيالي” وينطوي على كوارث ويتعارض مع المصالح القومية، غدا الآن “مشروعا” وفي الغد “واقعيا”. هذا يحدث أيضا لأفكار إعادة الحكم العسكري في غزة وإعادة احتلال حزام أمني في لبنان”.
وفي نظره فإن “زعماء الاستيطان يختفون وراء المبررات الأمنية، مثلما قال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش “أينما توجد مستوطنات سيكون هناك جنود، ولذلك سيكون أمن”. هذا بحد ذاته حلم مدهش سيحتاج إلى كتائب جنود من أجل إيجاد حلقات دفاع حول المستوطنات المحاصرة والمكشوفة لمليوني إنسان في قطاع غزة. ولكن المبرر الأمني هو آلية تطبيع أخرى”.
ويخلص روزنتال إلى أن “إيتمار بن غفير أوضح أن الاستيطان مقرون بالترحيل، أو ما يسمى بلغة الألاعيب “التشجيع على الهجرة”، الذي هو حسب تعريف عمانويل كانت من كريات أربع “الحل الأخلاقي جدا”. وتبين أن ماي غولان، وهي مفكرة صهيونية، أوضحت أن “من حاول إلحاق الكارثة بنا يجب أن يتلقى نكبة”، أي ليس “ترحيل أخلاقي” بل طرد الملايين”.
ومعروف أن حلم “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب” رافق الحركة الصهيونية منذ بدايتها، ورغم الصدام الحقيقي مع واقع وجود الشعب الفلسطيني على أرضه وصموده المتواصل عليها فإن نزعة القوة والسيطرة الصهيونية أنتجت أفكار التهجير والطرد.
وعلى الدوام كان هناك في الكنيست الإسرائيلي من يدعو إلى “الترحيل” الطوعي أو القسري باعتباره الحل “العقلاني” الوحيد الذي ينسف فكرتي الدولة الواحدة ودولتين لشعبين. ولم يبتعد المتطرفون الصهاينة عن فكرة التهجير، وربما ازداد تمسكهم بها بعد أن تفاقمت في نظرهم مخاطر “القنبلة الديمغرافية”. وهذا هو المعنى الفعلي من تصريح وزير المالية سموتريتش: “لو أنه أصبح في غزة 200 ألف فلسطيني بدلا من المليونين، لكان كل شيء أبسط بكثير”.
ولجعل الأمر أبسط بكثير كان لا بد من نظرية “المحاور” وتعميق معانيها وتوسيع مساحتها. وتكفي إشارة أولية إلى أن مساحة “محور نيتساريم” الذي يفصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه، وفق الاعتراف الإسرائيلي، تبلغ 56 كيلو مترا مربعا. وإذا كان لا بد من السير بمنطق الحسابات فإن هذه المساحة تعادل سدس مساحة قطاع غزة قبل اقتطاع أية مساحات أخرى. وتستند هذه المساحة إلى طول محور من حدود القطاع مع فلسطين المغتصبة والبالغة 7 كيلومترات مضروبة في عرض “المحور والبالغ حاليا 8 كيلومترات من شمال النصيرات حتى أطراف أحياء الزيتون والصبرة وتل الهوى في غزة.
وبحسب “يديعوت أحرونوت” فإن محور نيتساريم تحول من ورقة مساومة في المفاوضات، كما كان يقال في البداية، إلى جيب إسرائيلي طوله 8 كيلومترات وعرضه 7 كيلومترات، مع مواقع دائمة مريحة وشارع الأعلام الإسرائيلية.
وترى أن المحور يقسم القطاع إلى شمال وجنوب وأن “تطويره” جزء من خطة يتم تنفيذها وتطبيقها أيضا في محور فيلادلفيا وفي عملية إعادة بناء معبر كيسوفيم. وتؤكد مصادر إعلامية إسرائيلية أخرى أن ضمن ذلك أيضا محور مفلاسيم الذي يعزل محافظة شمالي غزة التي تضم جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا عن محافظة غزة.
وتصف الصحيفة ذاتها ما يجري في محور نيتساريم وما أقيم هناك فتكتب: “يرفرف صف من الأعلام الإسرائيلية على جانب المحور المركزي لمحور نيتساريم في جزئه الغربي، وصولا إلى البؤرة الاستيطانية الكبيرة على الشاطئ، جنوب غزة في منطقة الشيخ عجلين. هذا المركز، الذي يُنظر إليه بالفعل على أنه قاعدة لكل شيء: فقد أقيمت هناك زنازين اعتقال مؤقتة وغرف تحقيق، ومجمعات سكنية دائمة لجنود قيادة الكتيبة وسرية المقاتلين الملحقين بها. ويتم الآن حفر الخنادق هنا حول المجمع لحماية القاعدة التي تعج بعمال البناء وضباط الهندسة. الجزء المهم من هذه القاعدة يقع بينها وبين الساحل: الحاجز الساحلي المبتكر الذي يأمل الجيش أن ترحل من خلاله كتلة كبيرة من السكان الفلسطينيين قريبا إلى جنوب القطاع، مع اتساع الضغط على منطقة جباليا”.
وتضيف أن “هذا مجرد مظهر واحد من مظاهر الاحتلال البري المتوسع لقطاع غزة من قبل الجيش الإسرائيلي، في السنة الثانية من الحرب: محور نيتساريم يسيطر عليه لواءان مشتركان من المشاة والمدرعات الاحتياطية. وهذه ليست الألوية المكانية المعروفة بالمهام الدفاعية في الأراضي الإسرائيلية لفرقة غزة في النقب الغربي، وهما أقرب إلى اثنين من الألوية الثلاثة التي كانت تسيطر على قطاع غزة قبل الانفصال. وهناك أيضاً لواء ثالث هو “الناحال”، كما كان قبل عام 2005، يقوم بذلك في جنوب القطاع: وهو اللواء الذي يحمي محور فيلادلفيا بين رفح وسيناء، كشريط متسع بطول 14 كيلومترا يقيمه الجيش الإسرائيلي”.
وتدعي يديعوت أحرونوت أنهم “في إسرائيل خصصوا المحور كورقة مساومة مع حماس لعودة المختطفين: الانسحاب من المحور، وسيعود نحو مليون غزاوي من منطقة خان يونس والبلدات المهجرة المحاذية لها على الساحل إلى منازلهم في مدينة غزة ومحيطها، مقابل الإفراج عن نحو 100 مختطف ما زالوا في الأسر. لكن المفاوضات بشأن الصفقة انفجرت وتم تأجيلها وتشويهها وإفسادها وتضمنت العديد من الاختراقات الأخرى”.
وأنشأ الاحتلال في محور نيتساريم بؤرة استيطانية عسكرية فائقة الحماية، وأوصل إليها كل ما تحتاجه من إمدادات ووسائل راحة للجنود. وقام بتمديد خط مياه من مستوطنات النقب إلى “المستوطنة العسكرية” الجديدة، فضلا عن تركيب هوائيات لشبكات الهاتف المحمول الإسرائيلية لتسهيل تواصل الجنود مع أهاليهم.
ومحور نيتساريم يعتبر نموذجا يحتذى به في المناطق الأخرى وخصوصا في محوري مفلاسيم بين غزة وشمالها وفيلادلفيا بين سيناء وغزة. وما العمليات الحربية التي يمارسها الجيش الإسرائيلي وتوصف بالإبادة الجماعية لما تحويه من مجازر وتدمير مناطق بأكملها على رؤوس ساكنيها وتجويعهم إلا جزء من هذه المنهجية، فالاحتلال يقوم بشكل منهجي بهدم وتدمير أحياء بكاملها في إطار خطة تقطيع الأوصال وإنشاء معازل قطاع غزة.
وبعد أن عزل الاحتلال غزة وشمالها عن باقي القطاع من خلال محور نيتساريم يعمد اليوم إلى عزل بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا عن مدينة غزة، وفي هذا السياق ينشئ محور مفلاسيم الذي يمتد مثل نيتساريم من الشرق إلى الغرب، وتقوم نظرية المعازل هذه أيضا على مبدأ تفريغ المنطقة من سكانها أو على الأقل من أغلب سكانها.
وكانت افتتاحية “هآرتس” قد حذرت من مخاطر ما يجري من مخطط لشمالي القطاع فكتبت: “الجمهور في إسرائيل ملزم بأن يوجه نظره مباشرة إلى ما تنفذه دولته باسمه في شمال قطاع غزة. في بداية أكتوبر/تشرين الأول أعلن الجيش الإسرائيلي عن عملية عسكرية هناك، ومنذ أكثر من شهر يفرض حصارا مشددا على المنطقة حول جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، حصار داخل حصار في داخل حصار، هكذا وصف ذلك مصدر في الأمم المتحدة، منطقة لا يسمح فيها الجيش الإسرائيلي لأحد أن يدخل إليها ولا حتى لمنظمات الإغاثة الدولية. سكان شمال القطاع طُلب منهم أن ينتقلوا جنوبا، امتثالا لروح “خطة الجنرالات” للواء احتياط جيورا آيلند. رغم أنه من ناحية رسمية إسرائيل تنفي أنها تنفذها. الفكرة العامة “للخطة” هذه هي إجلاء السكان، والإعلان عن منطقة عسكرية مغلقة، وخلق معادلة يكون فيها من يبقى يصنف مخربا وحكمه الموت”.
وكتب المعلق العسكري لـ”هآرتس”، عاموس هارئيل مع زميله ينيف كوفوفيتش أن “الجيش الإسرائيلي يتنصل من العلاقة مع خطة الجنرالات، التي حظيت بانتقاد دولي، لكنه في الواقع ينفذ جزءا كبيرا منها. السكان لم ينتقلوا إلى جنوب نيتساريم، لكنه تم طردهم فعليا من القطاع الشمالي إلى جنوب جباليا، وربما حتى إلى مخيم الشاطئ الموجود جنوبا. هذا النشاط يرافقه تدمير كثيف للبيوت والبنى التحتية من جباليا نحو الشمال، الذي يبدو أن البعض منه غير مرتبط مباشرة بالقتال. هذه التغييرات تقريبا لا يمكن إصلاحها وهي تتطلب من الفلسطينيين سنوات لإصلاحها، هذا إذا تم ذلك. هذا هو الانطباع الذي تولد بعد زيارة في الميدان”.
ويضيف الكاتبان أنه “بين كيبوتس نير عام وسديروت وعلى هامش الطريق تحت الجسر الذي يمر عليه القطار يمكن رؤية منشأة وضعت فيها خيام. بنظرة أولى تبدو هذه المنشأة مثل مخيم للكشافة، على مدخل هذا المخيم تم وضع لافتة كبيرة كتب عليها “إيلي عزة”. هذا المكان حظي بالنشر عنه في موقع ويكيبيديا الذي وصفه بـ”مستوطنة غير قانونية أقيمت قرب كيبوتس إيرز على يد نشطاء من اليمين، الذين يريدون إقامة المستوطنات في قطاع غزة”.
ويقولان إنه “على مسافة غير بعيدة عن المخيم توجد ثغرة في الجدار الحدودي الذي تدخل منه قوات الجيش الإسرائيلي إلى شمال القطاع. بعد التعمق مئات الأمتار في أراضي القطاع ظهر أن النشطاء في هذه الخيام قريبين أكثر من تحقيق الحلم مما يعتقد الجمهور الواسع. في العطاطرة وفي بيت لاهيا لم يبق أي بيت يمكن العيش فيه. المنطقة تظهر وكأنه حدثت فيها كارثة طبيعية. بين الأنقاض لا يظهر أي من المواطنين، وكجزء من محاولة لطردهم فإن الجيش يطلق النار من الرشاشات نحو المنطقة في الليل وإلى المناطق المفتوحة. المواطنون الذين يريدون العودة لا يمكنهم ذلك لأن الجيش يمنعهم”.
ويخلصان إلى أن “الواقع على الأرض يدل على أن الجيش الإسرائيلي ينفذ عملية تقسيم لشمال القطاع قسمين، في المرحلة الأولى قسم الجيش الإسرائيلي كل القطاع قسمين في منطقة ناحل عوز. والآن القسم الشمالي في القطاع يقسمه الجيش قسمين. لا يسمح للسكان بالعودة إلى المناطق التي تم إخلاؤها، وحتى في المناطق التي انتهت فيها نشاطات الجيش الإسرائيلي”.
وفي الجهة الأخرى هناك الحديث عن جهود تبذل لإعادة فتح معبر كيسوفيم الواقع في المنطقة الفاصلة بين دير البلح وقرارة خان يونس، ومن الناحية الظاهرية يشكل إعادة فتح المعبر تجاوبا مع المطالب الأميركية بتوسيع إيصال المعونات الإنسانية إلى قطاع غزة لمنع وقوع “المجاعة”.
وبذريعة فتح المعبر، ستدعي إسرائيل أنها بحاجة لحماية المعبر والقوات العاملة فيه وهذا يعيد إلى الأذهان الحور الذي كان قائما في هذه المنطقة التي كانت تفصل أيضا بين وسط القطاع وجنوبه في خان يونس ورفح.
ونشرت إسرائيل في الثامن من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري صورا لعمليات بناء وترميم هندسية في المنطقة تمهيدا لإعادة فتح معبر كيسوفيم. ويعتقد كثيرون أن ما يجري في تلك المنطقة سيقود إلى إنشاء محور يمتد من الحدود إلى البحر ليضاف كمحور تقطيع رابع يضاف إلى مفلاسيم ونيتساريم وفيلادلفيا.
أما فيلادلفيا فالجميع يعرف أن الجيش من ناحيته لم ير أية أهمية بالاحتفاظ به، بعكس نتنياهو واليمين المتطرف الذين اعتبروا البقاء فيه عنوان الحفاظ على صخرة وجود الصهيونية. وبديهي أن محور فيلادلفيا لم يعد مجرد طريق أمني، بل صار من أجل تأمينه يقوم على أوسع عملية هدم وتدمير لمدينة رفح ومخيماتها وأحيائها، إذ لم ينج من التدمير المنهجي سوى مناطق قليلة، فالسيطرة على المحور تعني إنهاء حرية حركة الفلسطينيين نحو مصر ولو تحت رقابة بعناوين دولية.
وكانت عدة مصادر إعلامية إسرائيلية قد تناولت تقسيم القطاع داخليا 3 مناطق لتعزيز السيطرة الميدانية وتقييد حركة الفلسطينيين، وبما يمهد ربما لإعادة فرض الحكم العسكري، تلبية لمطامح القوى اليمينية في الكيان.