الخيارات التركية بعد انتصار المعارضة السورية
أنقرة- مع سقوط نظام الأسد، تبدو تركيا في موقع إستراتيجي يجعلها من أكبر المستفيدين من انتصار المعارضة السورية، بالنظر إلى أولوياتها الإستراتيجية المتمثلة في تأمين حدودها ومعالجة قضية اللاجئين، وهو ما يسمح لأنقرة أن تجني مكاسب كبيرة، خاصة في ظل التغيرات الإقليمية والدولية.
ولكن يبقى مستقبل هذا الانتصار مرهونا بقدرة تركيا على ترجمة مكاسبها الميدانية إلى ترتيبات سياسية تضمن مصالحها، خاصة في ظل التحديات المعقدة التي تواجهها في الداخل السوري والإقليم ككل.
وفي أول تعليق تركي بعد سقوط نظام الأسد، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إن حقبة عدم الاستقرار التي عاشتها سوريا على مدى 14 عاما قد انتهت، مشيرا إلى أن بلاده تعتزم العمل مع الإدارة الجديدة لضمان نجاح المرحلة الانتقالية.
وحذر فيدان من محاولات ما وصفها بـ”التنظيمات الإرهابية” استغلال المرحلة الانتقالية لتحقيق مكاسب جديدة، لافتا إلى أن تركيا تراقب عن كثب تحركات تنظيم “الدولة الإسلامية” وحزب العمال الكردستاني في سوريا، لضمان عدم تهديد الاستقرار في المنطقة خلال هذه المرحلة الحساسة.
مكاسب المنتصرين
يقول الباحث في “مركز سيتا للأبحاث” كوتلوهان قورجو، إن تركيا كانت واحدة من الدول القليلة التي استمرت في دعم المعارضة السورية عسكريا على مدى 13 عاما، مما وضعها في مقدمة الأطراف الرابحة في هذا النزاع المعقد.
وأوضح قورجو في حديثه للجزيرة نت، أن “تركيا ركزت بشكل أساسي على قضيتين حيويتين خلال هذه الفترة: معالجة ملف اللاجئين السوريين، والتصدي لتهديد حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية”.
وأشار إلى أن كلا الملفين يشهدان تقدما ملحوظا؛ فاللاجئون بدؤوا بالعودة تدريجيا إلى ديارهم، بينما تضاءلت فرص بقاء التنظيمات المسلحة في سوريا بشكل كبير، مما يعكس نجاحًا كبيرا للسياسات التركية في هذا الإطار.
وأضاف قورجو أن التحولات الإقليمية، بما في ذلك تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة، تمثل فرصة إستراتيجية لتركيا لتعزيز دورها جنوبا، وهو ما يمهد الطريق لنظام جديد في سوريا، يمكن أن يتسع فيه نفوذ أنقرة بشكل غير مسبوق.
وشدد على أن تركيا ستكون لاعبا رئيسيا في المرحلة المقبلة، حيث ستعمل على حماية مكتسباتها التي تحققت عبر السنوات الماضية في ظل التغيرات الجيوسياسية المتسارعة.
وأشار الباحث إلى أن هذه المرحلة الجديدة قد تفتح المجال أمام ظهور تهديدات جديدة، مع دخول أطراف متعددة تسعى للاستفادة من الوضع الراهن، مبيّنا أن تركيا ستستمر في العمل على حماية إنجازاتها، ليس فقط من خلال إستراتيجياتها العسكرية، بل أيضا عبر المساهمة في دعم تأسيس حكومة سورية شاملة تضم مختلف الأطياف، إلى جانب دورها المرتقب في إعادة إعمار البلاد وتعزيز الاستقرار على المدى الطويل.
وأوضح قورجو أن أهمية الشمال السوري بالنسبة لتركيا تتجاوز مسألة مكافحة الإرهاب إلى ضمان أمن حدودها الممتدة لنحو 900 كيلومتر، إذ إن تركيا -من خلال وجودها العسكري ودعمها للجيش الوطني السوري- استطاعت تأمين الضفة الغربية لنهر الفرات، بينما تبقى التهديدات قائمة شرقي النهر.
وأشار إلى أن تقييم تركيا لوجودها العسكري في سوريا سيعتمد على تطورات الوضع الميداني ووضوح الصورة النهائية للواقع السوري، مؤكدا أن أنقرة عازمة على تعزيز دورها في صياغة النظام السوري الجديد، من خلال استثمار مكتسباتها الإستراتيجية وضمان استقرار طويل الأمد، مع مراعاة المتغيرات الإقليمية والدولية.
التدخل العسكري
من جانبه، أوضح المحلل الأمني والضابط السابق في الاستخبارات التركية مراد أصلان، أن تركيا لن تقبل ببقاء حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا كقوة دائمة، أو السماح له بالسيطرة على أراض هناك.
ويرى أصلان في حديثه للجزيرة نت، أن أنقرة تعتبر هذه المسألة مبدأ أساسيا لا يمكن التفاوض بشأنه، وأن استمرار محاولات الحزب بالتشبث بالمنطقة قد يدفع تركيا للتدخل العسكري بالتعاون مع قوى المعارضة، بهدف حماية أمنها القومي واستقرار المنطقة الحدودية.
ويشير المحلل الأمني إلى أن موقف الولايات المتحدة من هذه القضية لا يحمل أهمية كبرى بالنسبة لأنقرة، “لأن تركيا ترى أن الوجود الأميركي في المنطقة مؤقت، ومن المحتمل أن ينتهي عاجلا أم آجلا” حسب قوله.
ويرى أن أنقرة تركز على حماية مصالحها القومية بعيدًا عن الاعتبارات الأميركية، مؤكدا أن تركيا مستعدة للقيام بأي إجراء تراه ضروريا، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، إذا شعرت بتهديد مباشر لأمنها.
ويرى أصلان أن السياسات الأميركية تجاه سوريا تتسم بالتناقض، فبينما أعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن نيته الانسحاب من سوريا، اختار فريقا سياسا يركز بشكل كبير على تعزيز المصالح الإسرائيلية، وهو ما انعكس في دعم حزب العمال الكردستاني ومساواته بالأكراد والتعامل معه كحليف إستراتيجي.
وأضاف “على مدى 14 عاما، عانت شعوب المنطقة، بما في ذلك السوريون والأتراك، من ظروف صعبة للغاية نتيجة استمرار الصراع. ولهذا، فإن تركيا تضع مصالحها وأمنها وأمن السوريين فوق أي اعتبارات أخرى، لأن انعدام الأمن في سوريا يهدد الأمن التركي بشكل مباشر”.
وفيما يتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة، أشار أصلان إلى أن تركيا أبدت استعدادا دائما للعمل المشترك مع واشنطن لإيجاد حلول، ولكن الولايات المتحدة لم تفِ بتعهداتها، وأضاف “تم التوصل إلى بروتوكولات مع الروس والأميركيين، من بينها اتفاقيات لإخلاء منبج من قوات حزب العمال الكردستاني، إلا أن تلك الاتفاقيات لم تُنفذ”.
وختم أصلان حديثه بالقول “تركيا لا يمكنها الاعتماد على الولايات المتحدة لضمان أمنها، وإذا لم يتم التوصل إلى حلول دبلوماسية، فإن تركيا ستتدخل عسكريا لضمان أمنها القومي”.
دور محوري
من ناحيته، يقول الباحث في العلاقات الدولية مصطفى يتيم، في حديثه للجزيرة نت، إن التطورات الأخيرة في سوريا عززت من موقع تركيا كمحور رئيسي في المنطقة، مشيرا إلى أن المرحلة الثانية من الثورة السورية شهدت تراجعا واضحًا في دعم نظام الأسد من قبل حلفائه التقليديين، وهو ما أسهم في ضعف هذا النظام بشكل غير مسبوق.
ووفقا له، فإن “روسيا باتت تواجه أعباء كبيرة بسبب حربها في أوكرانيا، في حين أن إيران وحزب الله متشتتان بفعل الصراعات المستمرة مع إسرائيل، لذا فإن هذا التحول أدى إلى فقدان نظام الأسد للدعم العسكري والاقتصادي والسياسي الذي كان يعتمد عليه لعقد من الزمن، مما جعله هشا وعرضة للانهيار”.
وأضاف “تكلفة الدعم الذي قدمته هذه الأطراف للنظام تجاوزت بكثير ما حققته من مكاسب، مما دفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها”، مؤكدا أن روسيا وإيران تسعيان للتكيف مع الواقع الجديد في سوريا، حيث تعملان على تعزيز التعاون مع تركيا، “التي أصبحت شريكا لا غنى عنه في أي جهود مستقبلية لتحقيق الاستقرار” حسب وصفه.
ويرى أن روسيا، وانطلاقا من وجودها العسكري ومصالحها الإستراتيجية في البحر المتوسط، ستسعى للحفاظ على نفوذها في سوريا عبر تعزيز التعاون والحوار مع تركيا.
كما يعتقد أن إيران، التي تدرك التغيرات التي طرأت على المشهد الإقليمي، قد تعيد صياغة سياساتها بالتنسيق مع أنقرة لضمان تحقيق مصالحها، خصوصًا من خلال نفوذها في العراق.
ويشير يتيم إلى أن المنصات السياسية مثل “عملية أستانا” قد تستعيد دورها في المرحلة المقبلة، لكن بصيغة تتماشى مع المعطيات الجديدة على الأرض، مؤكدا أن العلاقات القوية التي تجمع تركيا مع كل من موسكو وطهران تؤهلها للعب دور رئيسي في تعزيز الحوار السياسي بين الأطراف الثلاثة، بما يسهم في تحقيق توازن جديد في المنطقة.