اقتصاد

عودة الموظفين إلى المكاتب ليست الحل الوحيد

كانت أروقة المكاتب في الماضي تعجّ بالنقاشات والحوارات، ويجري تبادل الأفكار بين المديرين والموظفين الجدد بكل حيوية. أتذكرون المقاصف، تلك المساحة التي كانت تُلهمنا بأفكار جديدة أثناء انتظار القهوة، ناهيك عن تجارب التعلم. في الماضي. عموماً، كان يكفي للموظف الجديد أن يجلس قرب زميل خبير، ليغترف من معينه المعرفي.

لقد حفّز مثل هذا الحنين إلى أيام ما قبل الجائحة، الرؤية التي قدمها أندي جاسي الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، منذ أيام، إذ طالب الموظفين بالعودة إلى العمل بدوام كامل من المكتب. وفي مذكرة لموظفي الشركة، قال جاسي: إن القرار من شأنه تسهيل «التعلم والتخطيط والممارسة» على الموظفين. وقال: «إن القرار سيعزز ثقافتنا»، بينما يجعل أشياء مثل العصف الذهني «أكثر سهولة وفعالية».

لا أودّ أن أفسد على أحد هذه النظرة المتفائلة. لكن في ما مضى، أي قبل نحو 5 أعوام، أبدى الموظفون تذمرهم من الانعزال وضعف التدريب والإنتاجية. فهل تذكرون المكاتب في أيام الجمعة؟ لا، ولا حتى أنا. ماذا عن اللقاءات خارج مقر العمل، لأن المقار كانت سخيفة، إلى درجة أنها لا تساعد على إنتاج أفكار جديدة؟. للأسف، أتذكر ذلك.

بطبيعة الحال، يمكن لتجمع الموظفين في مكان العمل، أن يكون معززاً للروابط والابتكار والتعلم. وعادة ما كانت أفضل ثرثراتي خلال محادثات لطيفة بالصدفة. وبالنسبة للبعض، كان التنقّل من وإلى العمل منفذهم إلى الحيوية. لكن لكيلا ننجرف وراء الذكريات، فالمكتب ليس الحل لكل مشكلة بمكان العمل.

مع ذلك، يعتقد البعض أنه الحل، حتى إن لم تكن هناك دلائل داعمة لوجهة النظر هذه. وفي كتابها الجديد «أوفر وورك»، تحدثت المؤلفة بريدجيد شولته عن «غرفة الصدى» للقيادة.

وأخبرها أحد الخبراء، أن فريقهم «كان أكثر إنتاجية في واقع الأمر»، حينما تمتعوا بالمرونة في العمل «ولم يكن ذلك من حيث عدد ساعات العمل فحسب، بل من حيث الناتج الفعلي». وكان بوسعهم إثبات ذلك للرئيس التنفيذي، لكن «ليس بمقدورهم حمله على الاستماع، لأنه كان يرهف السمع فقط لما يقوله أقرانه من الرؤساء التنفيذيين».

ويتفاخر رؤساء عمل آخرون بأن تكليفهم الموظفين بالعودة إلى المكتب، دلالة على قوة قيادتهم، وإيلون ماسك دليل على ذلك، حين وصف الموظفين الذين يعملون بعيداً على أجهزة الحاسوب المحمول، بأنهم «يعيشون في أرض الخيال».

من كان ليظن أن أمراً مملاً مثل العمل من المكتب، قد يصبح ميداناً لمعركة ثقافية؟ لكن هكذا تسير الأمور الآن. وحينما صرح جوناثان رينولدز وزير الأعمال والتجارة البريطاني، بأن العمل المرن من شأنه تعزيز الإنتاجية والفرص، أدانت هذا التصريح كيمي بادينوك، المُرشحة لقيادة حزب المحافظين المعارض.

بين هذا وذلك، وبينما يجري تشويه الإحصاءات وتبادل الإهانات، وبينما يقبع كسالى في جانب، ويصيح العمالقة من الجانب المقابل، فهل سينتهي هذا الأمر يوماً؟.

يذهب ديفيد دي سوزا المدير المهني لدى معهد «تشارترد» للأفراد والتنمية، وهي هيئة للموارد البشرية، إلى أن هذا في حقيقة الأمر إلهاء «عن مناقشات حيوية بشأن الإنتاجية، والمرونة، والأمن الوظيفي، والعدالة، والتوازن»، وأنه «يجب على الشركات أن توازن بين العوامل المعقدة وراء اتخاذ القرارات القائم على أدلة، لا الاعتماد على المشاعر، أو وفق ما تفعله الشركات الأخرى».

وأخبره بعض مسؤولي الموارد البشرية عن «ضغوط من الرئيس التنفيذي» لاستعادة الحضور الفعلي لمكان العمل «بسبب تفضيلات شخصية أو حنين إلى الماضي».

ومع ذلك، وعلى الرغم من الضجيج، تكمن الحقيقة في أن القادة يسعون لأن يكونوا عمليين، فيما يوفر أغلب أرباب الأعمال في وظائف الياقات البيضاء، قدراً من المرونة في اختيار المواقع، لأن ذلك مفيد لكل من الموظفين والمسؤولين.

وفي الولايات المتحدة، تبلغ نسبة أرباب العمل أولئك 67 %، بحسب تقرير صادر عن «فليكس إندكس». أما المملكة المتحدة، فقد قدر معهد «تشارترد» للأفراد والتنمية، أن النسبة تصل إلى 83 %. وتوصلت دراسة حديثة نُشرت بمجلة «نيتشر»، إلى أن «العمل الهجين الذي ينطوي على العمل ليومين من المنزل لا يضر بالأداء»، بل حسّن من رضا الموظفين ومسألة الحفاظ عليهم.

أعرب لي نيك بلوم، أحد مؤلفي الدراسة، عن تشككه في منطق الأداء الذي انطلق منه أندي جاسي، لأنه يتعارض مع «بيانات مُستقاة من الكثير من الدراسات في شركات أخرى، تُظهر أن العمل لثلاثة أيام من المكتب، يولّد نسبة الإنتاجية ذاتها تقريباً، مثل العمل لخمسة أيام من المكتب».

وفي حين أن العمل ليومين إضافيين، يعزز التلاقي الشخصي، والإرشاد وبناء الثقافة، لكنه لا يتيح للموظفين الوقت الهادئ الذي يمكن أن يشجّعهم على إنجاز عمل عميق. وخلافاً لحُجة أنهم كسالى، يشير بلوم إلى أن «الذين يعملون من المنزل، يميلون إلى تجاهل وجبة الغداء، وأنهم يمكن أن يعملوا بكد طوال اليوم».

يشير هذا إلى تفسير آخر وراء فرض جاسي للعمل من المكتب. ففي مذكرته، سلّط جاسي الضوء على رؤية مستقبلية لشركة «أمازون»، يكون فيها هناك «عدد أقل من المديرين، من أجل إزالة الطبقات، وتبسيط تنظيم المؤسسة».

ويتجه تفكير بلوم إلى أن العمل الدائم من المكتب، قد يكون أفضل استراتيجية لتحقيق ذلك. ويحذر بلوم قائلاً: «سيؤدي اشتراط الحضور إلى المكتب خمسة أيام، إلى زيادة كبيرة في الاستقالات».

عموماً، سيكون من المثير للاهتمام، مشاهدة ما ستؤول إليه الأمور، لكنني على يقين من أمر ما: تحتاج «أمازون» إلى عمل الموظفين من المنزل، فبدون ذلك، من سيكون موجوداً لاستلام الطرود التي تسلمها الشركة؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى