اقتصاد

بريطانيا وألمانيا .. أبرز مظاهر الاتفاق والاختلاف

يقوم بعض الألمان بأفضل أعمالهم في لندن. ويعد كارل ماركس، هانز هولباين، جورج فريدريك هاندل، كاي هافرتز، خير مثال لذلك، إضافة إلى كون الألمان، من خلال تجربتي الشخصية، أفضل المتحدثين باللغة الإنجليزية في القارة.

ويمكن أن يغذي ذلك شعوراً بأن هذين البلدين متقاربان كثيراً، رغم ما حدث خلال النصف الأول من القرن الماضي. كذلك، ألمانيا متخصصة في التصنيع، فيما بريطانيا هي ثاني أكبر مصدر للخدمات في العالم. وألمانيا لديها مجموعة واسعة من المناطق المهمة، فيما بريطانيا تتركز الهيمنة في مدينتها الرئيسية أكثر من أي دولة غنية ذات حجم كبير. وبالنسبة للمشهد السياسي، ألمانيا لديها حكومات ائتلافية، مع ثلاثة أحزاب في الحكومة الحالية. أما في السياسة البريطانية فالفائز يأخذ كل شيء لدرجة أن كير ستارمر حصل على أغلبية 174 مقعداً من حصة 34% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة.

والسياسة المالية الألمانية قد تتسم بالحكمة، بينما لم تحقق بريطانيا فائضاً في الميزانية منذ مطلع الألفية. وألمانيا اتحادية، أما بريطانيا فهي في واقع الأمر دولة مركزية. وكانت ألمانيا عضواً مؤسساً في المشروع الأوروبي، بينما انضمت بريطانيا متأخرة ثم غادرت.

حتى نسيج الحياة في هذين البلدين مختلف تماماً، فبوسعك أن تركب قطاراً من عصر الفضاء عبر ألمانيا ثم تُصدَم بشخص يستخدم جهاز فاكس، ليس من باب السخرية، أما بريطانيا فهي أكثر رقمنة لكنها أقل جودة في البنية الأساسية الملموسة. وهكذا، فهاتان طريقتان متمايزتان، بل ومتعارضتان تقريباً، لإدارة دولة ديمقراطية متوسطة الحجم ومرتفعة الدخل. ومع ذلك فهما تتقاربان في شيء واحد مشترك وهو: الفشل. والمشاكل التي تواجهها بريطانيا قد تكون معروفة أكثر، كما أنها مزمنة، في حين قد تكون مشاكل ألمانيا أكثر حدة، فقد كانت ألمانيا الاقتصاد الرئيسي الأسوأ أداء في عام 2023. وسياساتها التي كانت هادئة ذات يوم تتدهور بوضوح.

فما الدرس المستفاد إذن؟ الدرس المهم هو: لا تبالغ أبداً في إضفاء المثالية على بلدان أخرى. قد يبدو هذا وكأنه شيء عالمي، لكنه في الواقع قمة التعصب المحلي. ومن الواضح كذلك أن اليساريين يقعون في الخطأ نفسه مراراً وتكراراً. لذلك، كان «تقديس» نموذج السويد في تسعينيات القرن الماضي أمراً يتسم بالساذجة إلى حد كبير. ولكن في عهد أنجيلا ميركل، كانت ألمانيا بمثابة شانجريلا (أو ذلك المكان الخيالي الموصوف في رواية الفردوس المفقود التي كتبها الروائي البريطاني جيمس هيلتون) بالنسبة للتقدميين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، الذين أشادوا بالتمثيل النسبي مقارنة بالأغلبية الجامحة، وبالاستراتيجية الصناعية مقارنة بسياسة الحرية التامة وعدم التدخل، والقوة الناعمة على العسكرة «الأنجلوأمريكية».

وأصبحت برلين نفسها ــ المدينة الأقل بريقاً من لندن أو نيويورك ــ دليلاً على صحة هذا المفهوم لكن الوقت أدى إلى تعقيد هذه الصورة كثيراً. ويبدو أن الحكومات المتعددة الأحزاب قد تجلب الكثير من التردد. وقد يعني تشكيل الاقتصاد دعم الصناعات الناشئة. وقد تكون القوة الناعمة تعبيراً ملطفاً للسذاجة في مواجهة الأعداء المميتين. وقد يعني وجود الكثير من المدن الجميلة وعدم وجود المدن الكبرى التخلي عن الفوائد الاقتصادية المترتبة على مفهوم التكتل.

وهكذا، فإنه عندما تقف دولتان مختلفتان في مواجهة مثل هذه المآزق المتشابهة في نفس الوقت، فينبغي لنا أن نشك في وجود نموذج واحد «صحيح». وفي واقع الأمر، ما يوجد هو مقايضات. وبصرف النظر عن الأساسيات ــ حقوق الملكية، وجمع الضرائب، والخدمات العامة الشاملة، وما إلى ذلك ــ فإن أي سياسة تقريباً لا يمكن اعتبارها خيراً مطلقاً. وللأسف، فإن التشديد على تحسين شيء ما يميل إلى جعل الشيء الآخر أسوأ. والقيادة تتعلق في أحد جوانبها بمسألة اختيار المشاكل التي يمكن أن نواجهها. وعموماً، لم تكن خيارات ألمانيا خاطئة. فهي لا تزال أغنى من بريطانيا. لكن إذا كان من الصعب توقع التكاليف والنتائج المنحرفة عن الهدف في ألمانيا، فتخيل كم سيكون الأمر أصعب من الخارج.

هنا يكمن الخطر في الإعجاب المبالغ فيه بالنماذج الأجنبية.

إن المملكة المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة بصفة خاصة، مهتمتان كثيراً بمحاكاة الاستراتيجية الصناعية، لكن من دون النسب التي تؤهلهما لذلك، أو الوعي الكافي بالسجل المختلط لمثل هذه الاستراتيجية.

وفي النهاية، أي من هاتين الدولتين المختلفتين يعاني من مشاكل أكبراقتصادياً؟ 

بريطانيا بالتأكيد، فألمانيا تتحمل ديوناً عامة أقل، وسعيها إلى تصنيع عدد أقل من أجزاء الآلات وتقنيات أكثر تقدماً أمر ممكن تماماً بمرور الوقت. ولديها أيضاً وسادة داعمة من السوق الأوروبية الموحدة. لكن على الصعيد السياسي، تعد مشكلة التطرف في ألمانيا أسوأ، حيث تعاني من يسار متطرف، ناهيك عن أشد أحزاب اليمين المتطرف الرئيسية في أوروبا. في المقابل، تكمن ميزة المركزية النابليونية في بريطانيا في الحسم القاسي. لكن من الممكن أن يؤدي رئيس وزراء سيئ أو اثنان إلى تدمير الأمور (وهو ما حدث بالفعل). بينما من الممكن أن يكون رئيس وزراء جيد للغاية قادراً على تحريك البلاد من جديد.

من ناحية أخرى، تعد فرنسا هي التوأم الحقيقي لبريطانيا: من حيث نصيب الفرد في الدخل، والتعرض البحري، إلى جانب كونها دولة موحدة لفترة طويلة، كما أن الكثير يتركز في عاصمتها، علاوة على خسارتها إمبراطورية ضخمة خارج أوروبا. وهكذا، فإن قصة مدينتين لا تدور حول لندن وميونيخ. وحتى نقطة الاتصال الأنجلو ألمانية، المتمثلة في كرة القدم، تقدم تناقضاً مثيراً للسخرية بين الدولتين. فألمانيا فازت بأربع بطولات كأس عالم، بينما فازت إنجلترا ببطولة واحدة. والواقع أن جاذبية هذه العلاقة الثنائية تكمن في التباين (السلمي). ومن المضحك إذن أن يصل الجانبان أخيراً إلى شيء مشترك، وهو ذلك الشعور السائد في الدولتين بآلام المتاعب الوطنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى