اقتصاد

المقاطعة.. كيف نجحت مقاومة الناس العاديين في عزل إسرائيل أكثر؟

خمسة عشر شهرا مرت منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، دون أن تتوقف عجلة الإبادة الجماعية الإسرائيلية عن الدوران وحصد أرواح الضحايا.

ومن رحم المأساة خرجت دعوات المقاطعة، فقد عرف العالم ما يحدث لأول مرة بالصوت والصورة المباشرة، وأدرك سكان المعمورة أن حكوماتهم تدعم، أو في أفضل الأحوال تغض الطرف عن الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في فلسطين.

شهدت المقاطعة زخما واسعا ليس في الدول العربية والإسلامية فحسب، وإنما في مختلف أنحاء العالم مع تزايد الوعي بالقضية الفلسطينية، وارتفاع الغضب الشعبي العالمي تجاه ازدواجية معايير الحكومات الكثيرة التي منحت غطاء متبجِّحا وغير مسبوق للجرائم الإسرائيلية.

انضمت إسبانيا وأيرلندا والنرويج إلى 140 دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة في الاعتراف رسميا بدولة فلسطينية، ورغم أن البيت الأبيض يؤيد الإسرائيليين بلا هوادة، فإنه أقر بأن إسرائيل على خلاف متزايد مع غالبية المجتمع الدولي.

وكان مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان قد قال للصحفيين: “بصفتنا دولة تقف بقوة في الدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة، فقد رأينا بالتأكيد جوقة متزايدة من الأصوات، بما في ذلك الأصوات التي كانت في السابق تدعم إسرائيل، تنجرف في اتجاه آخر”.

عزلة تحيط بإسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، تزايدت بعد إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتَيْ اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت، وبموجب قرار المحكمة التي لا تملك قوة فعلية لتنفيذه، أصبحت الدول الأعضاء فيها ملزمة قانونا بتنفيذ الأمر الصادر باعتقال نتنياهو وغالانت إذا دخلا أراضيها، وذلك بتهم تتعلق بـ”ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” خلال حرب الإبادة المتواصلة على قطاع غزة، وتسليمهما إلى الجنائية الدولية لاتخاذ الإجراءات القانونية بحقهما.

عن هذه العزلة كتب أندرو إكسوم، المسؤول الدفاعي السابق في إدارة أوباما، في مجلة “أتلانتيك” أنه خلال الأشهر التي انقضت منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، اتسعت الفجوة بشكل لم يسبق له مثيل بين رؤية إسرائيل لاحتياجاتها الأمنية، ورؤية العالم لتلك الاحتياجات نفسها.

ومع استمرار الحرب الدائرة التي تجاوز عدد ضحاياها أكثر من أربعة وأربعين ألف شهيد، شهدت تلك العزلة ظهور سلاح جديد لم يتصور أحد أنه قد يكون مفيدا للقضية الفلسطينية إلى هذا الحد، إنها المقاطعة، التي اتسعت مكتسباتها لتتخطى مقاطعة البضائع إلى المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية وسحب الاستثمارات.

طلاب في لندن يطالبون جامعاتهم بسحب استثماراتها من الشركات المنتفعة من الحرب الإسرائيلية على غزة (الأناضول)

المقاطعة عبر التاريخ

تعود أصول لفظ المقاطعة (boycott) في السياق الغربي، الذي يُستخدم للتعبير عن المقاطعة في اللغة الإنجليزية إلى عام 1880، وذلك حين رفض العمال الأيرلنديون التعاون مع وكيل الأراضي الإنجليزي تشارلز كننغهام بويكوت، ومن هنا استُخدم اللفظ للتعبير عن المقاطعة الجماعية والنبذ المنظم لأول مرة بواسطة صحيفة “التايمز” في مقال نشرته في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه.

لكن تاريخ المقاطعة الفعلي يعود إلى أبعد من ذلك الوقت. على سبيل المثال، نجحت حملة مقاطعة السكر الذي ينتجه العبيد في إنجلترا على خلفية رفض البرلمان لإلغاء قانون العبودية في عام 1791، وهي المقاطعة التي أطلقت سلسلة من المقاطعات والاحتجاجات أدت في النهاية إلى إلغاء العبودية.

ولعل من أشهر المقاطعات الناجحة تاريخيا هي ثورة التنباك (التبغ) عام 1890 في إيران، حيث حاول الشاه وقتها قصر تسويق التنباك لصالح شركة بريطانية، وقد أصدر رجال الدين وقتها فتوى بتحريم التنباك، ما تسبب في عزوف الناس عن شرائه وإفشال الصفقة في نهاية المطاف.

وفي عام 1912 في تونس، اندلعت حركة مقاطعة “ترام واي تونس”، المملوك لشركة فرنسية، بعد تعرض طفل تونسي للدهس.

وفي عشرينيات القرن الماضي، استخدم المهاتما غاندي حركة المقاطعة بوصفها جزءا أساسيا في مقاومة الاستعمار البريطاني للهند، مطلقا عبارته الشهيرة: “كلوا مما تُنتجون، والبسوا مما تصنعون، وقاطعوا بضائع العدو، احملوا مغازلكم واتبعوني”. وكانت الخسائر الاقتصادية التي لحقت ببريطانيا من أهم العوامل التي أدت إلى إنهاء الاستعمار لاحقا.

كما أفلحت مقاطعة حافلات “مونتغمري” في منتصف خمسينيات القرن الماضي في إطلاق حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، وبالمثل نجحت مقاطعة عمال مزارع العنب في الولايات المتحدة في أواخر ستينيات القرن العشرين في الضغط على أصحاب المزارع للاستجابة لحقوق العمال.

على مدار التاريخ، كانت المقاطعة سلاحا فعالا للمستضعفين للتعبير عن موقفهم في مواجهة سلطة أكثر قوة وبطشا. وبغض النظر عن تأثيرها الاقتصادي، تبدو المقاطعة في اللحظة الراهنة فعلا سياسيا وحيدا في أيدي الأفراد في حين لا يملكون من أمر أنفسهم أكثر من التخلي عن كوب من الصودا أو شطيرة برغر.

الاستهلاك بوصفه فعلا سياسيا واعيا

طبقا لدراسة أجراها “برايدن كينج” من قسم الإدارة والمنظمات في كلية “كيلوغ” للإدارة، لا تكمن جدوى المقاطعة في تأثيرها المباشر على المبيعات، وإنما على السمعة العامة للعلامة التجارية.

فقد كشفت النتائج عن أن الشركات التي شهدت تأثرا في سمعتها كانت أكثر تضررا من تلك التي انخفضت مبيعاتها، وأشارت الدراسة إلى أن انخفاض المبيعات يحمل تأثيرا ضئيلا من الناحية الإحصائية إذا ما قورن بتأثير المقاطعة على السمعة أو الصورة العامة للشركات، حيث ينظر صناع القرار في الشركات إلى تلك الحملات باعتبارها تهديدا أكثر خطورة على سمعتهم منها على المبيعات، نظرا لما يلحق بذلك من تأثير على استثمارات المساهمين في هذه الشركات، وهو ما قد يؤدي إلى إلحاق خسائر فادحة بها.

الأمر نفسه أكدته دراسة استقصائية عمرها أكثر من ثلاثين عاما، أُجريت عام 1991 في المملكة المتحدة، في أعقاب القضاء على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، حيث كشفت عن أن قادة الأعمال اعتبروا المقاطعة أكثر فاعلية من حملات الضغط أو الدعاوى الجماعية في إقناعهم بتعديل ممارساتهم. كما أشارت إلى أهمية تحديد أهداف واقعية، طويلة المدى، مع وجود أهداف أخرى للتحقق على المدى القصير لتعظيم أثر المقاطعة.

من جهة أخرى، لا تقتصر أهمية المقاطعة على تأثيرها الاقتصادي فقط، وإنما يمتد تأثيرها الأهم إلى الوعي السياسي. ففي أغلب دول الشرق الأوسط التي يعاني مواطنوها من صور مختلفة من قمع صور الاحتجاج أو التعبير عن الرأي، كانت مقاطعة البضائع منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية الوسيلة الأصدق لهؤلاء المواطنين للتعبير عن رفضهم للمذبحة القائمة.

وحتى إذا لم تُحدِث مقاطعة البضائع تغييرا مباشرا في قرارات الحكومات، فإنها تُحوِّل استهلاك الفرد إلى فعل سياسي واعٍ قادر على إحداث تغيير حقيقي على أرض الواقع على المدى البعيد.

في كتابهما “الحركات الاجتماعية: مقدمة”، تشير دوناتيلا ديلا بورتا وماريو دياني إلى الاستهلاك الأخلاقي باعتباره “نظرية تطرح الاستهلاك بوصفه فعلا سياسيا محتملا، وتؤكد الدور المحوري للأفراد في الاضطلاع بمسؤوليتهم عن اختيار السلع العادية المشتركة في حياتهم اليومية”.

وأضافتا أن “مقاطعة سلع بعينها والإقبال على شراء أخرى ذات مسؤولية اجتماعية هي أساليب مفيدة لإعادة تأهيل وتغيير طبيعة الأنشطة التجارية والإسهام في ممارسة قيم معينة”.

بعد مرور أشهر قليلة من بدء العدوان على غزة، ظهر تأثير المقاطعة جليا على العديد من العلامات التجارية العملاقة مثل “ماكدونالدز” و”ستاربكس” وغيرها. واليوم، مع نهاية عام 2024، يزداد وضوح تأثير المقاطعة، ليس فقط على تلك العلامات، لكنه امتد ليشمل جوانب أخرى أكاديمية واستثمارية.

Local pro-Palestinian activists protest outside a branch of McDonalds in the London Borough of Croydon on 4th May 2024 in London, United Kingdom. The activists called for an immediate ceasefire in Gaza, for an end to Israel's occupation of Palestinian land and for the boycott of brands such as McDonalds perceived to support Israel. (photo by Mark Kerrison/In Pictures via Getty Images)
محتجون في مدينة لندن يطالبون بمقاطعة المنتجات الداعمة لإسرائيل (غيتي إيميجز)

العلامات التجارية تراجع مواقفها

كان إعلان سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” في إسرائيل عن تبرعها بآلاف الوجبات المجانية للجنود الإسرائيليين في التاسع عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2023 قد أشعل شرارة حملات مقاطعة واسعة النطاق طالت فروعها في مختلف أنحاء العالم، واستمر زخمها رغم تأكيد فروع سلسلة المطاعم الشهيرة في مختلف دول الشرق الأوسط الأخرى استقلاليتها وانفصالها عن هذا القرار.

وقد ظهر تأثير المقاطعة الموجع في منشور للرئيس التنفيذي لشركة “ماكدونالدز” كريس كيمبنسكي نشره على موقع “لينكد إن”، تحدث فيه عن التأثير الملموس و”المحبط” الذي تشهده الأسواق في الشرق الأوسط وخارجه بسبب الحرب و”المعلومات المضللة المرتبطة بها”، حسب وصفه، وعن تأثر “ماكدونالدز” الكبير بها.

وفي محاولة منها لحل الأزمة، عقدت سلسلة “ماكدونالدز” في إبريل/نيسان الماضي صفقة مفاجئة استحوذت فيها على حصة صاحب الامتياز الإسرائيلي “عمري بادان” البالغ عددها 225 فرعا، وذلك بسبب سياساته التي أشعلت غضبا عالميا تسعى “ماكدونالدز” لتهدئته عبر هذه البادرة.

بالمثل عانت سلسلة متاجر “ستاربكس” عقب رفعها دعوى قضائية ضد نقابة “العمال المتحدين” التي تنظم العاملين في سلسلة متاجرها في أعقاب إعلانهم عن تضامنهم مع فلسطين، وهو ما قوبل بحملة مقاطعة ضخمة أدت إلى انخفاض أسهمها بما يقارب 10% من إجمالي قيمتها السوقية في ديسمبر/كانون الأول 2023، وهي الخسائر التي استمرت على مدار العام التالي، حيث أشارت “راشيل روجيري”، المديرة المالية في “ستاربكس”، إلى أن المشكلات في الشرق الأوسط أثرت سلبا على المبيعات الدولية في الربع الثاني، مع استمرار انخفاض مؤشرات الأسهم.

وقد أعلنت مجموعة الشايع التي تدير علامة “ستاربكس” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مارس/آذار عن تسريح نحو 4% من القوى العاملة بها، يتركز أغلبهم في “ستاربكس”، نظرا لتضررها من المقاطعة، وفي محاولة لإيقاف سلسلة الخسائر أعلنت الشركة في سبتمبر/أيلول الماضي عن استبدالها رئيسها التنفيذي “لاكسمان ناراسيمهان” وتعيين “بريان نيكول” خلفا له، وسط انخفاض المبيعات الحاد الناتج عن حملة المقاطعة الواسعة التي واجهتها خلال العام الماضي.

ومن بين العلامات التجارية التي تضررت بشكل كبير من حملات المقاطعة علامتا “بيبسي” و”كوكاكولا”، وقد أشارت بيانات “يورومونيتور” إلى أنها المرة الأولى التي تنخفض فيها نسبة مبيعات المشروبات الغازية السنوية بدلا من زيادتها وذلك منذ عام 2009.

بذلت الشركتان محاولات إعلامية لتحسين صورتيهما، في بنغلاديش على سبيل المثال ظهر إعلان مُصوَّر يلعب فيه أحد الممثلين دور صاحب متجر يقنع زبائنه بأن “كوكاكولا” ليست من “ذلك المكان”، دون إشارة صريحة لإسرائيل، ويؤكد أن لديها مصنعا في فلسطين.

لكن الإعلان أثار موجة غضب واسعة في الشارع البنغالي، نظرا لأن ما أطلق عليه الإعلان مصنعا فلسطينيا هو في واقع الأمر شركة تعبئة مملوكة لإسرائيل تعمل في مستوطنة إسرائيلية في القدس الشرقية، تُعد غير قانونية بموجب القانون الدولي. سرعان ما اضطرت الشركة لسحب إعلانها من جميع المنصات، والاعتذار عنه، لكن ذلك لم يمنع المزيد من انخفاض المبيعات.

مصائبهم عند بلادنا فوائدُ

وعلى الجهة المقابلة، ازدهرت بدائل الصودا المحلية المتنوعة، في مصر مثلا ازدادت مبيعات كلٍّ من “سبيرو سباتس” و”v7″، وهو ما حدث لـ”كولا نكست” البديل المحلي في باكستان.

أما “غزة درينكس”، التي انتشرت في دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة وجنوب أفريقيا، فقد نجحت في بيع 16 مليون علبة خلال الأشهر الخمسة الأولى منذ إطلاقها في مارس/آذار الماضي، وقد حمل مشروبها نكهة سياسية أيضا نظرا لالتزام الشركة بالتبرع بجزء من أرباحها لدعم المجتمع المدني الفلسطيني.

تؤكد هذه النجاحات أهمية وجود بدائل محلية مناسبة ذات جودة وأسعار مقاربة ويسهل الوصول إليها، كي تتمكن المقاطعة من تحقيق أهدافها بشكل مستدام وطويل الأجل.

يمكن أن تمنح المقاطعة الاقتصادية طويلة الأجل دفعة قوية للاقتصاد المحلي، مع حدوث طفرة في الطلب على البدائل المحلية، خاصة في ظل انخفاض القوى الشرائية الظاهر بالفعل في عدد من دول الشرق الأوسط والناتج عن التضخم والأزمات الاقتصادية، الذي يدفع المستهلك للبحث عن بدائل محلية أرخص، لكن ذلك يعتمد بالأساس على الاستمرارية على المدى البعيد.

لقد ظهرت العديد من التطبيقات الخاصة بالهواتف للتعرف على البضائع المستهدفة وبدائلها. كما لعبت منصات التواصل الاجتماعي دورا أساسيا في نشر الوعي وإيصال الصوت الفلسطيني حول العالم، رغم تورط بعض هذه الأدوات في أدوار مشبوهة، في 2021 على سبيل المثال، وقَّع كلٌّ من غوغل وأمازون على مشروع “نيمبوس” الذي يهدف إلى توفير بنية تحتية سحابية للجيش الإسرائيلي وحكومته. وكان هذا التعاقد الذي تبلغ قيمته 1.2 مليار دولار أميركي قد أثار وقت توقيعه حملة من الإدانة من مساهمي الشركة وموظفيها، حيث يؤدي إلى المزيد من الانتهاكات والمراقبة للفلسطينيين وجمع البيانات غير القانونية عنهم.

كما اتُّهِمت منصات “ميتا” مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” على مدار العام الماضي بالتضييق على المحتوى الذي ينتقد ممارسات دولة الاحتلال، ورغم ذلك يُشكِّل إيجاد بديل لهذه الأدوات تحديا أصعب بكثير من استبدال مشروبك المحلي بالكولا.

المقاطعة الأكاديمية.. الجامعات تقول كلمتها

لم تكن المقاطعة الأكاديمية للمؤسسات العلمية الإسرائيلية أمرا مطروحا خلال السنين الطويلة للجرائم الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.

لكن هذا العام شهدت الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية حالة من العزلة غير المسبوقة، بدأت بموجات من المقاطعة الصامتة والتجنب، وامتدت لتصبح مقاطعات رسمية واضحة، مما شكَّل تهديدا حقيقيا لها نظرا لاعتمادها على المنح والتصنيفات المؤسسية المرتبطة بالأبحاث المنشورة بشكل كبير. وقد وصف “إيمانويل نحشون”، المتحدث السابق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، ما تواجهه المؤسسات الأكاديمية في دولة الاحتلال بأنه “تسونامي” من الرفض.

صورة من اعتصام الطلاب في جامعة كولومبيا (الجزيرة)
صورة من اعتصام الطلاب في جامعة كولومبيا (الجزيرة)

وفقا لما نُشر في “الغارديان” يرى “إيلان بابيه”، المؤرخ الإسرائيلي والأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكستر بالمملكة المتحدة، ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية بالجامعة، أن “الأكاديميين والجمعيات العلمية التي ترددت في الماضي في الانضمام إلى حملة مقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية أصبحوا اليوم يقفون خلفها بالكامل”، مضيفا أن “الأوساط الأكاديمية الإسرائيلية متواطئة بشكل مباشر أو غير مباشر في جرائم الدولة”.

تفسر حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) أسباب المقاطعة للمؤسسات الأكاديمية والبحثية في إسرائيل بأن الجامعات الإسرائيلية بادئ ذي بدء مبنية على أراضٍ فلسطينية محتلة بشكل غير قانوني، فيما يُشكِّل انتهاكا واضحا للقوانين الدولية. كما أنها تشارك بشكل مباشر في نظام الاحتلال والقمع والفصل العنصري، عبر علاقات قوية مع الجيش الإسرائيلي تتجاوز التعاون البحثي إلى استضافة قواعد عسكرية في الحرم الجامعي، ومن ناحية أخرى تعمل على تطوير نظريات أكاديمية تبرر الاحتلال وتبيّض صورته وتعقلن سياسات التطهير العرقي الممارَس من قِبَل حكومتها أمام المجتمع الدولي.

تستضيف جامعة تل أبيب على سبيل المثال معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، الذي طوَّر ما يسمى بعقيدة الضاحية، ويدعو إلى “تدمير البنية التحتية الوطنية، والمعاناة الشديدة بين السكان [المدنيين]”. كما تشارك العديد من الجامعات الإسرائيلية في تطوير أنظمة أسلحة ونظريات عسكرية وأمنية تُستخدَم بشكل مباشر في انتهاك حقوق الفلسطينيين.

من ناحية أخرى، شهد العام الماضي أكثر من مئة حالة موثقة من الإجراءات العقابية التأديبية ضد الطلاب الفلسطينيين والباحثين في الجامعات الإسرائيلية، تنوعت بين الطرد والإيقاف عن العمل، ووصلت إلى الاعتقال بسبب منشورات على حساباتهم الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، أبرزها حالة الباحثة الفلسطينية “نادرة شلهوب كيفوركيان”، التي أوقفتها الجامعة العبرية عن التدريس بعد وصفها للهجوم الإسرائيلي في غزة بأنه إبادة جماعية.

وقد اتسعت قائمة المؤسسات العلمية التي اتخذت قرار المقاطعات الأكاديمية، ومن بينها جامعة غرناطة التي أعلنت عن تعليق تبادل الطلاب والباحثين مع الجامعات الإسرائيلية، وتعليق العمل بالاتفاقيات الموقعة معها، في مقابل تكثيف العلاقات مع الجامعات الفلسطينية والترحيب بالطلاب والباحثين الفلسطينيين.

كما أعلنت جامعة برشلونة في مايو/أيار الماضي أنها لن تُبرم أية اتفاقيات مع المؤسسات الإسرائيلية “حتى تضمن الظروف في قطاع غزة السلام المطلق واحترام حقوق الإنسان”، وعن تفعيل الآليات اللازمة لكسر اتفاقيتها للتعاون مع جامعة تل أبيب. كما دعت الاتحاد الأوروبي إلى منع المؤسسات الإسرائيلية على الفور من جميع المشاريع التي يمولها، وأضاف البيان أن الجامعة لن تشارك في أي حدث أكاديمي أو مؤسسي تشارك فيه المؤسسات الإسرائيلية حتى تقديم الاتحاد الأوروبي لهذه الضمانات.

وكذلك أعلنت جامعة أوسلو ميت النرويجية عن توقفها عن الدخول في اتفاقيات تعاون عام “مع الجامعات الإسرائيلية”، وتعليق اتفاقية التعاون القائمة مع جامعة حيفا. بالإضافة إلى العمل على إنهاء اتفاقيات الشراء مع الموردين المرتبطين بعلاقة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي.

الحراك الطلابي في الولايات المتحدة الأميركية وسحب الاستثمارات

تعود جذور حركات الاعتصام الطلابي المنادية بسحب الاستثمارات في الولايات المتحدة الأميركية إلى ستينيات القرن الماضي، حيث كان اعتصام طلاب “نيو ساوث” السلمي في مارس/آذار 1969 هو أولى موجات الاحتجاجات الطلابية التي امتدت خلال السبعينيات والثمانينيات، وطالبت باتخاذ موقف ضد نظام الفصل العنصري من خلال سحب جميع الاستثمارات من الشركات التي تتعامل مع جنوب أفريقيا.

 

وخلال العام الماضي، شهدت الجامعات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأميركية دعوات مماثلة لسحب استثماراتها من الشركات التي تتعاون مع إسرائيل، وقد تبنَّتها الحركات الطلابية المناصرة للقضية الفلسطينية، وعلى رأسها حركة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين” (SJP)، وحركات يهودية يسارية مثل طلاب “أصوات يهودية من أجل السلام” (JVP)، وطلاب “حياة السود مهمة” (BLM).

حيث تعتمد الجامعات الأميركية في تمويلها على صناديق أوقاف تتباين قيمتها، وتصل في مجملها إلى مليارات الدولارات، طبقا لبحث بعنوان “الاحتجاجات الطلابية ومستقبل الاستثمارات الإسرائيلية في الجامعات الغربية والأميركية” صادر عن مركز السلام للدراسات الإستراتيجية، وتتخذ الاستثمارات الإسرائيلية في الجامعات الأميركية أشكالا متعددة ما بين الأوقاف والشراكات المباشرة وصناديق الأسهم، وتمتلك بعض الجامعات الأميركية استثمارات في شركات تدعم إقامة المستوطنات على الأراضي الفلسطينية.

كما تعاونت الجامعات الأميركية مع إسرائيل بهدف تطوير التقنيات العسكرية وتكنولوجيا المراقبة، وهو التعاون الذي أسهم في تطوير نظام القبة الحديدية المعلن عنه عام 2011. إضافة إلى ذلك، فقد كشفت وزارة التعليم الأميركية عن تلقي الجامعات منحا مالية من إسرائيل.

ربما لم يحقق الحراك الطلابي في جامعات الولايات المتحدة الأميركية ما يصبو إليه بعد، لكن من ناحية أخرى شهد سوق الاستثمارات في إسرائيل عددا من الانسحابات الأخرى الناتجة عن ضغوط حملات المقاطعة، من بين أبرزها صندوق تقاعد (يو أس أس)، وهو أكبر الصناديق التقاعدية في المملكة المتحدة الذي تخلص من نحو 80 مليون جنيه إسترليني (100 مليون دولار أميركي) من الأصول الإسرائيلية بما فيها السندات الحكومية، بعد ضغوط مستمرة من أعضائه، وأغلبهم من أساتذة الجامعات.

وفي يونيو/حزيران، أعلنت شركة “كي أل بي”، أكبر شركة خاصة لإدارة المعاشات التقاعدية في النرويج، تخليها عن حصتها البالغة نحو 70 مليون دولار في المجموعة الصناعية الأميركية “كاتربيلر”، بسبب خطر استخدام معداتها في انتهاك حقوق الإنسان للفلسطينيين. كما سحب صندوق التقاعد الدنماركي، أحد أكبر صناديق التقاعد في الدنمارك ويضم أكثر من 800 ألف عضو، جميع استثماراته من البنوك الإسرائيلية.

وأعلن صندوق “ستور براند”، ثاني أكبر صندوق استثماري في النرويج، سحب استثماراته التي تبلغ نحو 141 مليون دولار بالكامل من شركة “آي بي أم” بسبب تزويدها إسرائيل بقاعدة بيانات بيومترية تستخدمها في تنفيذ الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.

وإلى جانب التأثير الاقتصادي، فالأمل أن يسهم الضغط السياسي للأصوات المنادية بالمقاطعة في التأثير على مواقف الحكومات المختلفة، وهو ما سيضع إسرائيل في مأزق حقيقي. ووفقا لما نشرته صحيفة “كالكاليست” الإسرائيلية في يوليو/تموز الماضي، فقد تزايدت التقارير منذ اندلاع الحرب عن رغبة العديد من الدول والشركات في تقليل أو تقييد التجارة الدفاعية مع إسرائيل.

وأعلنت حكومات إيطاليا وكندا وبلجيكا وقف الصادرات الدفاعية إلى إسرائيل، كما أن الحكومة الإسبانية منعت سفينة تحمل أسلحة قادمة من الهند إلى إسرائيل من الرسو في ميناء قرطاجنة الإسباني.

الأمر اتخذ أشكالا مؤسسية عدة، لكن لعل أبرزها هو موقف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي تبنَّى قرارا دعا فيه جميع الدول إلى “وقف بيع ونقل وتحويل الأسلحة والذخائر وغيرها من المعدات العسكرية إلى إسرائيل” من أجل منع المزيد من انتهاكات القانون الدولي الإنساني وانتهاكات حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى