ثقافة وفنون

عن جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر

عن جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر، “النظم أدل على الطبيعة، لأن النظم من حيز التركيب. والنثر أدل على العقل، لأن النثر من حيز البساطة. وإنما تقبلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور لأنا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس؛ ولذلك يغتفر له عندما يعرض استكراه في اللفظ. والعقل يطلب المعنى، فلذلك لا حظ للفظ عنده وإن كان متشوَّقا معشوقا”؛ هكذا عبر أبو حيان التوحيدي عن جدلية المفاضلة بين الشعر والنثر وأيهما أشد أثرا في النفس في كتابه “المقابسات”، مؤكدا أن هذه الجدلية التي لن تنتهي فلسفية المنشأ، ولئن كان التوحيدي ومعه ثلة كالقلقشندي والمرزوقي والثعالبي يرون أفضلية النثر على الشعر لأنه مبني على مصالح الأمة وقد جرت عليه مكاتبات الملوك والحكام فيما بينهم، فإن غالبية النقاد الأقدمين والمعاصرين يرون أفضلية الشعر على النثر.

وقد عُرف العرب منذ العصر الجاهلي بعنايتهم الفائقة بالشعر العربي، واهتمامهم به أكثر من النثر، لأنه أقرب إلى النفس وأعلق بالذاكرة وأسير على الألسنة، وهو كما يقول الحاتمي في “حلية المحاضرة”: “وأولى هذين بالمزية، والقدم للمتقدم، المنظوم؛ فإنه أبدع مطالع وأنصع مقاطع وأطول عنانا، وأفصح لسانا، وأنور أنجما، وأنفذ أسهما، وأشرد مثلا، وأسير لفظا ومعنى”، لكن ذلك لا يعني عدم اكتراثهم بالنثر، فقد اشتهر في صفوفهم كثير من الخطباء والبلغاء، ولم يكونوا أقل تقديرا من شعرائهم، أمثال قس بن ساعدة الإيادي، وسحبان بن وائل الباهلي، وأكثم بن صيفي، وغيرهم. وهكذا هي قضية تنازع الشعر مع النثر قديمة قدم التاريخ، وهي حاضرة في آداب الأمم جميعها، ولئن كان النثر هو أول ما تكلم به الإنسان، ولم ينظم الشعر إلا بعد حين من الزمن، أي بعد تطور اللغة والأوزان وتعرّفه ما يسمى بالعروض، فإن الشعر جاء انسجاما مع لغة الوجدان والعاطفة وترجمانا لها، أما النثر فهو ترجمان العقل كما يقول أبو حيان التوحيدي على لسان عيسى الوزير “النثر من قبل العقل، والنظم من قبل الحس”.

إن مسألة التفاضل بين الشعر والنثر عند كثيرين ليست تنازعا بل تكاملا، فالنثر قسيم الشعر وكل منهما يكمل الآخر، ولكل منهما ميدانه وضروبه، وله معاييره الخاصة به، وذلك أن كلا من الشعر والنثر أدب، والأدب في حقيقته كلام جيء به لغايات متعددة؛ كالإخبار والتوثيق والتواصل والإقناع والحث والتأثير والشعور بالجمال والمتعة الفنية العالية التي يتميز بها في الوقت نفسه، وتتفاوت النصوص فيما بينها في هذا الجانب بحسب الكاتب ومهاراته والموضوع الذي يتناوله والغاية التي يكتب من أجلها. وكل من الشعر والنثر يعد تجربة ذاتية مرتبطة بذات الشاعر أو الأديب وأفكاره وانفعالاته ورؤاه.

أيهما أسبق وأيهما أجود؛ الشعر أم النثر؟

تستند جدلية الأفضلية بين الشعر والنثر في جزء رئيس منها إلى جدلية الأسبقية، فقد اختلفت الآراء اختلافا شاسعا حول أيهما أسبق؛ الشعر أم النثر، لكن الراجح في آراء العلماء أن الشعر أسبق؛ وذلك لأن النثر يقوم على تفكر ورؤية ونظر، بخلاف الشعر الذي بدأ غنائيا بسيطا ثم تطور مع مرور الزمن وتعاقب العصور والأجيال.

في مسألة أسبقية الشعر على النثر وأفضليته عليه يعتمد بعض الدارسين على السبق الزمني تاريخيا، معللين ذلك بأن لغة الخيال والتصوير والتشبيه أقرب إلى الإنسان الأول في صورته الفكرية الأبسط، أما لغة الفكر والخطاب والإقناع فهي أقرب للإنسان المعقد في صورته الفكرية المركبة. والحديث عن أفضلية الشعر والنثر مسألة حبلت بها كتب الأدب القديم وتعسّر المخاض فلم يتفق الدارسون على رأي واحد فيها. ويقال إن النثر “لا يظهر عند أمة من الأمم إلا متى بلغت تلك الأمة درجة عالية من المدنية والحضارة، بخلاف الشعر لغة العاطفة والخيال”.

شغلت مسألة المنافسة والتمايز بين الشعر والنثر قديما كثيرا من النقاد، ولعل أول من طرق هذه القضية هو الجاحظ، فقد ناقش هذه القضية في كتابه (البيان والتبيين)، وذهب إلى أن العرب كانت تقول كلاما منثورا أكثر من الشعر، لكن النقل والرواية كان من نصيب الشعر أكثر، وأورد في كتابه البيان والتبيين جواب عبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي حين سئل: “لم تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامة الوزن؟ فقال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقِلّة التفلت. وما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره”. يريد الجاحظ بذلك أن يبين لنا أنه لو نقلت لنا الكمية نفسها التي قالها العرب القدامى من النثر لرجحت الكفة لصالحه، ولكن العرب يحبون القول الفصيح وهم أصحاب فصاحة، والشعر أكثر قدرة على التعبير عن هذه الذاتية الأدبية التي يتطلع إليها الإنسان العربي.

وفي هذه المسألة نفسها ارتأى ابن رشيق أن للشعر فضلا على النثر فقال: “وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور، ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفقت الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبَّه، إذا كان منثورا لم يؤمَن عليه، ولم ينتفَع به في الباب الذي له كُسب ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله”. في حين يقول ابن طرارة وهو من فصحاء أهل العصر بالعراق: “النثر كالحرة، والنظم كالأمة، والأمة قد تكون أحسن وجها، وأدمث شمائل، وأحلى حركات، إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل حيائها. وقال: ولشرف النثر قال الله تعالى في التنزيل: ﴿إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا﴾ الإنسان: 19 ولم يقل: لؤلؤا منظوما”.

ثم ذهب ابن رشيق إلى حسم الجدال بقوله: “وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيدا محفوظا، وأن الشعر أقل، وأكثر جيدا محفوظا؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور”. وعن أسبقية النثر وأهميته يقول أبو حيان التوحيدي: “النثر أصل الكلام والنظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع”.

وجاء بعدهم نقاد آخرون حاولوا أن يقيموا نوعا من التسوية القائمة على المنطق والعقل، فذهب نقاد القرن الخامس الهجري إلى أن للنثر أسبقية على الشعر، وذلك لأن الإنسان عندما نطق في البداية إنما نطق بالنثر. أما فيما يتعلق بالجانب الجمالي فيرجحون كفة الشعر. وفي الواقع أن أي أدب يقوم على عنصرين اثنين؛ عنصر معرفي، وعنصر جمالي، فالقصد من أي نص أدبي هو إيصال المعرفة وإحداث التأثير وإثارة الإعجاب، وطريق النثر لأداء الوظيفة المعرفية أسهل لأنه لا يتقيد بحدود الوزن والقافية، وحرية القائل فيه أكبر وأوسع، أما الوظيفة الجمالية فالشعر أقدر عليها. وعلل ابن رشيق نظم الشعر وتقصيد القصيد لدى العرب بقوله: “كان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا”.

لا يمكن لأحد أن ينكر إسهام الشعر بحفظ كثير من أخبار العرب وأيامهم ووقائعهم وبدائع ما جادت به قرائحهم، وذلك لأنه كلام موزون يسهل حفظه وتناقُله، وبذا نال الشعر مزية الحفظ والبقاء إذا جاز التعبير، في حين لم ينل النثر العربي ما حظي به الشعر من سَير وانتشار على الألسنة وبقاء في الأذهان والقلوب، فهو خلاف الشعر كلام مرسل غير موزون ولا مقفى. وتمتُّع العرب بحافظة قوية كما يعرف عنهم؛ جعل حظ الشعر في البقاء والامتداد الزمني عبر التاريخ أعظم وأبعد.

على أن تمييز النثر من الشعر بالوزن والقافية فحسب ليس كافيا، فقد تجد قطعا نثرية موزونة وفيها سجع يقربها من التقفية لكنها ليست بشعر، فالشعر التعليمي على سبيل المثال له وزن وقافية لكنه يفتقد إلى الخيال والعاطفة، فلا هو نثر بالمطلق ولا هو بشعر. وهناك من يقول بقصيدة النثر التي ليس لها وزن ثابت ولا قافية، وفيها خلاف كبير وشائك بين قابل ورافض لها، ولست من أنصارها.

الفرق بين لغة الشعر ولغة النثر

تعد اللغة من أهم الفروق البينة بين الشعر والنثر، فاللغة الشعرية تخييلية تقوم على الانزياحات اللغوية بأشكالها المختلفة، وتخاطب العاطفة كخطابها للعقل لتولد لدى المتلقي الدهشة واللذة وتؤثر فيه فتثير تعجبه وإعجابه، والإيقاع والموسيقى الداخلية للكلمات جزء مهم من عناصر التأثير في المتلقين. في حين تتميز اللغة النثرية بالتركيز على مخاطبة العقل قبل العاطفة وإن اعتمدت على الانزياحات اللغوية أيضا، فغايتها التواصلية الإيصالية الإقناعية تطغى على وظيفتها الجمالية الإمتاعية عامة، وفي ذلك يقول زكي مبارك “إذا كان موضوع القول متصلا بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب؛ لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلا بأعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب؛ لأن لغته أقدر على الشرح والإيضاح والإفهام والتبيين والإقناع “.

الكذب في الشعر محمود وفي النثر مذموم!

من غرائب فضائل الشعر على النثر أن الكذب فيه محمود؛ إذ يقول ابن رشيق “ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه”، وحين سئل أحد المتقدمين عن الشعراء قال “ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم؟”. وفي مدح الشعراء وتجويز المبالغة لهم وفتح أبواب الضرورات التي تبيح المحظورات في اللغة قال الخليل “هم أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومد مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته”.

من حجج المنتصرين للنثر على الشعر

في تقديم النثر على الشعر في صدر الإسلام قال أبو عمرو بن العلاء “كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر”.

وفي سياق تفضيل الشعر على النثر وتعارض الآراء يستشهد الفريق الذي يفضل النثر ويرى تفوقه على الشعر بالقرآن الكريم، ويستندون إلى نفي صفة الشاعر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويرون أن في ذلك دلالة على وجوب تراجع مكانة الشعر، لكن الله تعالى جعل القرآن منثورا لبيان فضله على الشعر أيضا، فالقرآن لا يخضع للقياس بالنثر المعهود آنذاك ولا بالشعر، وقد تحدى بلغاء العرب شعراء وخطباء أن يأتوا بمثل آية واحدة منه فحسب، فأعجز الشعراء وما هو بشعر، وأعجز الخطباء وما هو بنثر. لذلك في حديث الشعر والنثر والأفضلية بينهما لا ينبغي أن يطرح حديث القرآن، فهو فوق كلام البشر ولا يخضع لمعاييرهم في القياس.

لن تنتهي جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر؛ فهي قائمة على الرؤية الفلسفية لكل منهما عند الفريق المنتصر لأحدهما على الآخر، وتفرع عن هذه الجدلية القديمة المتجددة جدلية جديدة حول موت الشعر ونهايته في عصر الرواية، وهي أيضا جدلية شائكة، ويبقى الواقع هو الحاكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button