ثقافة وفنون

بختيار علي يُعيد تأريخ المكان بالحب الغريب في “قصر الطيور الحزينة”

يستنتج قارئ رواية “قصر الطيور الحزينة” للكاتب الكردي بختيار علي (وُلد في مدينة السليمانية العراقية في عام 1960) سبب شهرته، وسبب ترجمة العديد من أعماله إلى لغات أخرى، ليس بين مجايليه من الكتاب الكرد فحسب، بل ضمن حركة الأدب الكردي وكتّابها.

ويعود الفضل، في تعريف القارئ العربي على عوالم هذا الكاتب، لدار الخان التي سبق لها أن نشرت له روايته “آخر رُمّان الدنيا” (2019) بترجمة غسان حمدان، وروايته “مساء الفراشة” (2019) بترجمة فدوى درويش، وصولا إلى نشر روايته هذه بترجمة إبراهيم خليل.

طبعة ألمانية لرواية “قصر الطيور الحزينة” (الجزيرة)

لعنة البقاء في المكان

يبني بختيار علي عالم روايته “قصر الطيور الحزينة” على حدث غريب، وكتب تفاصيله في رواية ضخمة يقارب عدد صفحاتها 600 صفحة، بينما يمكن اختصارها في عدّة سطور، وهي أنّ 3 شبان يقعون في حب فتاة عليلة وغريبة الأطوار وعالية الثقافة، ويتقدّمون، الواحد تلو الآخر، لخطبتها، فتقع عائلة سوسن كولدانجي في حيرة من أمرهم. ولكن الفتاة تجتمع بكل طالب ليدها على حدة، وتطلب منه تنفيذ عدة شروط، منها أن يسافر 8 سنوات ليجمع 100 طائر من الطيور المختلفة، وبعضها من الطيور النادرة والمهدّدة بالانقراض، وبعد ذلك يُمكن لها أن تختار واحدا منهم، وقد لا تختار أي أحد منهم. والشبان الثلاثة يوافقون على جميع شروطها، ويغادر واحدهم تلو الآخر ليجمع رغبات خطيبته المستقبليّة.

الشبان الثلاثة، كاميران سلمى ومنصور أسرين وخالد آمون، يختلفون عن بعضهم البعض في كلّ شيء، ويجمعهم فقط حب سوسن وتنفيذ رغباتها وشروطها. فالأول هو عاطل عن العمل ومن زعران المدينة، وأحد حاملي السكاكين ولاعبي القمار الشهيرين فيها. بينما منصور طالب جامعيّ ومثقف وخجول وعاش حياته بين الكتب أكثر من عيشها بين عائلته الصغيرة. أما خالد فهو تاجر ألبسة نسائيّة، وله علاقات كثيرة مع النساء، وينتمي لعشيرة كبيرة قويّة وغنيّة.

بختيار عليّ يُمدّد هذا الحدث الغريب بمياه كثيرة، حتى نقرأ هذه الرواية الضخمة. فالرواية ليست رواية رومنسية فقط، تحفل بمغامرات الشبان الثلاثة خلال ترحالهم للبحث عن الطيور الغريبة، بل هي رواية تؤرّخ لمدينة من نواحيها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والفلكلورية. تحلّل الأحزاب المتصارعة وحروب السلطة العراقيّة المركزية مع مجتمع الأكراد في الشمال، والحرب العراقية الإيرانيّة، وحرب غزو الكويت، ثم الغزو الأميركي للعراق، وانتفاضة الأكراد وحصولهم على الحكم الذاتي، وكذلك الاقتتال الدامي بين الحزبين الكرديين الكبيرين في الشمال، حزب الاتحاد الوطني والديمقراطي، وتأثيراتها على المكان وشاغليه.

السحر والكلاسيك

يروي بختيار علي حكاية، ويكتب روايته بشكل كلاسيكي، فهناك حكاية مركزيّة تبدأ منذ بداية أحداثها، وتجري حتى نهايتها. هناك مصائر محسومة للشخصيات الرئيسيّة والثانوية، أو المشاركة في الأحداث.

وعادة ما يبدأ بختيار علي روايته بجملة تُذكّرنا بالروايات الكلاسيكيّة الكبرى، وهي افتتاحيّة تذهب بالقارئ لكي يقرأ الرواية بانتباه وتشوّق. ولكن الرواية تستفيد من أجواء الواقعيّة السحريّة، التي تبني الجمل، وبالتالي السرد، بطريقة شعريّة، مليئة بالصور، وغرائبيّة في الوصف وعوالم الأحلام والكوابيس والموتى، ومحلية تجعل للمكان خصوصية واختلافا عن الأماكن الأخرى.

بمعنى آخر، فإن بختيار علي يكتب روايته بواقعيّة سحريّة كلاسيكيّة، بانيا المكان وشخصياته وحكاياته بوصف داخليّ وخارجيّ، ولا يعتمد على بناء شخصيّات قليلة، بل يعتمد على بناء شخصيات كثيرة، أنثويّة وذكوريّة، تختلف نفسيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيّا، وينجح في ذلك، في مكان يبدو مثل مكان بكر في الكتابة الروائيّة، وكأنّه مكان مُخترَع من أجل هذه الحكاية المركزيّة والحكايات الثانويّة.

تبدو شخصيّة “سوسن كولدانجي” وكأنها شخصيّة مجلوبة من رواية أخرى، أو من كتاب قديم. فعلى الرغم من أنها تعاني من المرض الدائم، مثل فقر الدم والصداع، فإن هذا المرض المرافق لحياتها يُضفي عليها رقة وجمالا يجعلها مختلفة عن بقية الفتيات، وهذا ما يجعل الآخرين يقعون في حبّها. “كانت سوسن امرأة متحضّرة بكل معنى الكلمة، مدنيّة أكثر من جميع نساء هذه المدينة اللواتي كنّ يصرفن من الوقت ويبذلن من الجهد أكثر مما يجب دون طائل، لأن مظهرهنّ في النهاية كان قرويّا خالصا”.

ولكن سوسن تتميز عن غيرها، وهو ما أثار حسد ونقمة نسوة المدينة، في أنها قضت حياتها بين الكتب والأطالس والقراءة، وعدم الاهتمام بالتسوق والزينة والحفلات. كانت تجوب العالم وهي جالسة في غرفتها، ولكن كانت تشعر بأن صور الأحداث والبشر والأمكنة والخرائط لا تُقدّم العالم على حقيقته، مع استعمال حاسة النظر فقط، أي من دون استعمال الحواس الأخرى. لذلك، ولأنها لا تستطيع فعل ذلك بنفسها، طلبت من خاطبيها أن يذهبوا ويزوروا العالم لمدة 8 سنوات، ليجلبوا مئات الطيور الغريبة. وعندما عادوا صارت تشمّ يدي كل واحد منهم، وصدره وشعره وكامل بدنه، لكي تفهم وتشعر بالأماكن التي زاروها، ولكي تعرف ما هي التحولات التي حصلت معهم روحيا بعد هذا الشقاء الكبير، والترحال الطويل، والتنقل بين المناطق والبيئات والأقوام واللغات المختلفة في العالم.

شخصيات وحكايات

بالإضافة للحكاية المركزيّة، التي تدوم نحو 20 عاما، يُقدّم بختيار علي شخصيات وحكايات أخرى كثيرة مثيرة ومميزة، فهو يُطلع القارئ على فئة “حمَلة السكاكين” في المدينة وأبطالها، مثل منكور باباكوره وعُنيلي قيماغيان ويوسف كويار، ومعاركهم وأعرافهم وقصصهم، وعالم القمار وعالم الأحزاب وتاريخ المكان. وكذلك شخصيات من عشيرة آمون وعائلة كولدانجي، فكرت وابنته بروشه وزوجها الطبيب المعالج لسوسن، وعائلة أسرين، مثل والده إبراهيم وأختيه بفراو وسيفان، والمغنين والشعراء والرسامين في المدينة، وحكايات من عالم الطيور الواسع وأسمائها اللاتينيّة الغريبة والطويلة وعالم تحنيط الطيور، التي صارت تموت تباعا، وعالم المدينة النهاريّ، المعروف لساكنيه، وعالم قاع المدينة الموغل في القسوة والدماء في 58 فصلا من المتعة والسرد المتدفّق والآسر.

رواية” قصر الطيور الحزينة” تُعتبر أكثر إتقانا من روايتيه المترجمتين قبلها إلى اللغات الأخرى، لأنها تبدو الرواية التي ستجعل اسم بختيار علي منتشرا في عدد من اللغات. هي روايته الأفضل التي كان يُريد أن يكتبها، ولكننا لا نستطيع أن نطلق حكم القيمة هذا، لأننا لم نطّلع ونقرأ بعد أعماله الروائية الأخرى، وهي 8 روايات لاحقة لم تُترجم بعد.

تأخر الاكتشاف

رغم كل الصفات الفنية التي تميّز كتابات بختيار علي، الذي يكتب الشعر والرواية والمقالات والقصص، فإن اكتشافه من قبل القارئ قد تأخر كثيرا، ليس من قبل القارئ العربي فقط، بل حتى كذلك من قبل القارئ الكردي الذي لا يستطيع القراءة بالسورانيّة، وهي اللهجة الكردية التي يكتب بها بختيار وتختلف عن الكرمانجية التي يتحدث بها أكراد سوريا وتركيا. فأول رواية صدرت لبختيار كانت في عام 1997. وروايته التي تُرجمت للعربية في عام 2019 نشرها بختيار في عام 1998، وهي “مساء الفراشة” أو “ليل بروانة” بالكردية، أو “غروب بروانة” بالفارسية. والأمر نفسه ينطبق على رواية “آخر رمّان الدنيا” التي صدرت بالكردية في عام 2002.

ربما ذلك يعود إلى الالتفات الجماعي، إذا جاز التعبير، لقراءة أعمال بختيار علي في لغات مختلفة. ففي ألمانيا كذلك تأخرت ترجمة بختيار علي إلى عام 2016 مع ترجمة روايته “آخر رمان الدنيا”. وفي العام التالي ترجمت روايته “مدينة الموسيقيّين البيض”، لينال في نفس العام جائزة نيلي زاكس (التي نالت جائزة نوبل للأدب في عام 1966) التي تمنحها مدينة دورتموند الألمانية كل عامين. ونال في هذا العام 2024 جائزة “هيلدا دومين” لأدب المنفى في ألمانيا. وخلال هذا الشهر ستصدر الترجمة الألمانية لروايته “قصر الطيور الحزينة” عن دار أونيون، التي نشرت أعماله السابقة كذلك.

مغادرة المكان واكتشاف العالم

أكثر أعمال بختيار علي تتمحور حول فكرة مغادرة المكان واكتشاف العالم، وحامل هذه الفكرة يتضمن بأن الإنسان عندما يجوب العالم، ويكتشف مدنا وبشرا وحيوانات وبحارا وأنهارا وحكايات جديدة، تخبو في داخله شعلة الشرّ والكراهية، وتفوح منه رائحة المحبة والسلام. “ارحل عن هذه المدينة، قبل أن تتحول إلى حيوان حقيقي” كما في رواية مساء الفراشة.

وأكثر شخصيات بختيار التي رحلت وقعت في خطر جهل الباقين والمقيمين، بينما من استطاع أن ينفد بجلده فقد نفد بحياته، وجعلها حياة مثيرة ومتجددة ومليئة بالذكريات. والذي بقي في المدينة، أو المكان، كان عليه أن يفقد حياته، بسبب السياسة والحروب والثارات، أو أن يفقد معنى حياته الشخصيّة، ويفقد آماله، بسبب الكآبة المميتة التي تميّز المكان.

بختيار علي نفسه لم يُخيّب آمال شخصيّاته، فهاجر قبل أن يكتب عنها. حقق بختيار علي أمل أبطاله في الهجرة، مغادرة المكان، فهاجر إلى ألمانيا في عام 1990، وما زال مقيما هناك، ولكنه ما زال يكتب عن ذلك المكان، عن مسقط الرأس، عن حكاياته وناسه وعاداته وتقاليده وحيواناته وحروبه ومآسيه، وكأنه ما زال عالقا هناك..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى