الماء في الحكايا المغربية.. حين تشكل الأمثال والحكم وعي الناس
مراكش – بدوار “إمَونين” بمنطقة تلوات الجبلية على السفح الجنوبي للأطلس الكبير الأوسط (ضواحي مدينة مراكش)، يحرص المواطن المغربي حوسا بن محماد أن يتمم وضوءه تحت شجرة الزيتون الصغيرة التي غرسها قبل أيام بيديه.
يشرح القروي الخمسيني طقسه اليومي بكل العفوية اللازمة في منطقة معروفة بندرة الماء، ويقول: “الماء أصل الحياة، ولا يمكن أن أذهب الى الصلاة وفي نفسي شيء من حسرة على قطرات ماء مسكوبة من دون أن يستفيد منها كائن حي وإن كانت شجرة صغيرة”.
من يتأمل ذلك الفعل اليومي البسيط، يجد أن الماء يشكل وعاء ثقافيا واجتماعيا ودينيا لعملية إنتاج الطقوس اليومية، وعنصرا فاعلا ومنظما اجتماعيا بامتياز.
وتبرز الباحثة المغربية في الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا حنان حمودة في حديث للجزيرة نت أن مساءلة جغرافية الموارد المائية بالمجتمع القروي المغربي، ترفع الستار عن مثل هذه الطقوس المائية، وأخرى مرتبطة بحركية الفصول الفلاحية والزراعية، المعبرة عن نظام من التفاعلات الاجتماعية.
وتضيف أن تمثل موضوع المقدس المتمحور حول الماء يترجم على شكل ممارسات طقوسية مائية وزراعية فلكلورية ضمن صفحات التراث الشفهي لمجال الدوار (القرية) بالخصوص، المشهور تراثه المحلي المتصل بتقاليد وعادات وأعراف المجتمع، وارتباطه بقيم ثقافية جذورها ممتدة، إذ بواسطة ممارسة طقوس الماء، يتم حكي تاريخ المجتمع القروي القديم، وتجميع صورته داخل قوالب من الحكي ومن الروايات الشفوية.
متن حكائي
يحضر الماء بالمتن الحكائي المغربي القروي بمثابة مرآة عاكسة لانشغالات الساكنة المحلية، وقيمة اجتماعية تنهل من الشخصية والذاكرة والهوية المغربية.
وتشير الأستاذة بجامعة محمد الخامس حنان حمودا إلى أن هذا المتن يتصل بدورة الحياة اليومية والموسمية عبر التنظيم الاجتماعي والثقافي للماء مع كل التعابير الحكائية والثقافية التي تسهر على ضمان إعادة إنتاجها مؤسسات التنشئة الاجتماعية الحاضنة للقيم المسؤولة عن تكيف الساكنة المحلية مع الخصائص الطبيعية المتفاوتة والصعبة.
وتضيف أن الثقافة المحلية والمحددات السوسيولوجية التقليدية، تترجم واقعا اجتماعيا تصاحبه العديد من الطقوس الاحتفالية المستبشرة بقدوم موسم زراعي خصب يعد الماء مركزه ونواته، لتصبغ رمزية خاصة على ٲمكنته وينابيعه وأوديته، والتي تم اتخاذ بعضها مجالات جغرافية مقدسة “للتبرك”، و”طلب الشفاء”، و”الخصوبة” و”الزواج” وغيرها.
في حين يبرز الباحث في تاريخ المغرب الحديث والمعاصر الدكتور حمزة أيت الحسين للجزيرة نت أن المخيال الجماعي لساكنة تلوات يجد في الماء مادة خياله النقية بامتياز، المادة النقية ببساطة، والتي شكلت موضوعا خصبا لإنتاجه الذهني، فالماء بهذا المجال الجغرافي الذي لا يرتاده عادة إلا أهله، يقدم نفسه رمزا طبيعيا للنقاء والصفاء، ورمزا للتجلي الطبيعي للمطلب الذهني بصفته تجسيدا رمزيا لكل أشكال الوضوح؛ وهي التي نجدها في المثل الشعبي المحلي القائل: “إِصْفَا زُونْدْ أَمَانْ” أي “نقي مثل الماء”، ذي الدلالات المتباينة حسب اختلاف سياق استحضاره؛ فتارة للتعبير عن الصدق والعدل والأمانة، وتارة للتعبير عن نقاوة شيء معين مقارنة بنقاوة الماء.
تدبير الندرة
تجمع مختلف الدراسات على أن أزمة الماء عنصر بنيوي غير جديد في المغرب، وهو ما أفرز العديد من الممارسات من أعراف وتقنيات شكلت رد فعل على الندرة، تصنف اليوم تراثا لا ماديا وموروثا شعبيا يتم تناقله عبر الأجيال يخضع للخصوصيات المحلية بمختلف أبعادها.
ويشرح الباحث المغربي الدكتور عبد الرزاق بن حساين للجزيرة نت أن المغاربة ابتكروا طرقا ذكية لإدارة الموارد المائية الشحيحة معتمدة على خبراء محليين، يعرفون بـ”مافامان” أو “عبار الماء”، للعثور على مصادر المياه الجوفية، كما بنوا وشغلوا أنظمة ري معقدة مثل السواقي والناعورة، بالإضافة إلى أنهم أنشؤوا منشآت لتخزين المياه.
ويضيف كاتب أكاديمية توبقال للأبحاث والدراسات الاجتماعي: “ومن أجل توزيع المياه بشكل عادل، استخدم نظام “النوبة”، الدوري لتوزيع الحصص المائية، واعتمد فيه على أدوات دقيقة مثل الساعات المائية لتحديد الكميات، ووضعت شروط صارمة من النجاعة والنزاهة والثقة أمام المشرف عليها”.
وتؤكد الباحثة حنان حمودة أن مؤسسة “اجْماعة” تتمتع برٲسمال ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي مهم للغاية داخل بنية المجتمع، يرمز دلاليا إلى دورها في عملية الضبط الاجتماعي، والتي تقوم بتدبير شؤون حياة سكانه داخليا وحمايته بواسطة العرف.
وتتابع المتحدثة: ” لكن رغم قوة استمرارها الرمزي والدلالي داخل البنية الذهنية والتصورية للساكنة المحلية، فإنها تبقى محصورة الوظائف والأدوار في بعض المناسبات الجماعية، أو في حالة صراع بين أطراف معينة تستدعي تدخل المؤسسات القانونية والأمنية بدل العرفية.
استقرار
وتنتشر عبارة “أَمَانْ دْ لاَمَانْ أَفْ إِتْزْدَاغْ يَانْ”، ومعناها “على الماء والأمن ينبني الاستقرار” في أحاديث مجالس الساكنة المحلية، بما عيني تلك الاستماتة المحيطة بالماء: في امتلاكه والدفاع عنه واستدامة الانتفاع به.
ويشير الباحث أيت الحسين إلى إن الظروف النفسية لساكنة تلوات تعد عنصرا إلزاميا، لاستقرار مجتمع دأب على العيش على تدبير الندرة؛ فهي تعد بذات أهمية الظروف الطبيعية والبيولوجية؛ وهي العنصر الأساس في انتعاش وتطور القوى المتخيَّلة في ذهن الساكنة المتعاملة بالماء، وإن كان ذلك على منحى شديد الاختلاف؛ ذاك المنحى الذي لعب فيه الماء دور الكاشف لصِلات الإنسان بالمادة المكونة لمحيط عيشه.
ويضيف أن الوقوف على العمق الذهني للممارسة الرمزية للمجموعة البشرية يفيد في القول بأنها وجدت متنفسا رحبا في الإيمان بالرؤية الغيبية؛ هذه الأخيرة التي وجدت لها مجالا خصبا في الوضعية المادية المعيشية للساكنة، وهو ما كان يزداد حدة كلما اشتد العجز بالساكنة عن مواجهة أزماتهم المرتبطة بالماء.
في حين يذهب الأكاديمي ابن حساين إلى أن هذا الموروث الشعبي في التعامل مع الماء يعد وسيلة مقوية لمناعة المجتمعات تجاه العولمة الجارفة، ويعزز التماسك الاجتماعي ونقل القيم الإيجابية، ويشكل موردا ترابيا يمكن استثماره لتنشيط القطاع السياحي عبر التفرد الذي يضفيه على المجال وبالتالي إحداث دينامية اقتصادية ستنعكس لا محالة على الجانب الاجتماعي كما أنه يمكن استثماره بصفته ثروة معرفية لتجويد الممارسات الفضلى الدافعة نحو التنمية بعد تكييفها مع المتغيرات التي يفرضها العصر الراهن.