ثقافة وفنون

القصّة التاريخية.. بين رواية المؤرخ ورؤية المخرِج

يُظلم “مخرج المسلسل التاريخي/كاتب السيناريو حين يحاكم محاكمةَ مؤلف الكتاب العلمي/راوي السيرة التاريخية؛ ولو كانا يشتركان في عرض أبطال نفس القصة وشخصياتها وأحداثها “الحقيقية”، ويُضام المؤلِّف الموضوعي إذا عُقدت له مناقشة الحكواتي المعلّم وانتُظرت منه الوعظية المباشرة والتدخل التلقيني.

ذلك بأن لكل واحد من المذكورين “جوّ عمل” مغايرا و”طبيعة خطاب” خاصة.

وحتى في العمل الفني السّينمائي، يبدأ عمل المخرج من حيث توقف دور “السيناريست”؛ فيحوّل المادة من طور الكتابة “الخام” -القائم على سرد أحداث القصة- إلى مرحلة تفسير النص -المعتمدة على معالجة الشخصيات واستنطاق الأفكار- بالتوازي مع “تصميم اللقطات” و”بناء المشاهد”؛ إمعانا في إسباغ التشويق البصري شكليا وإحكام الجَذب الذهني مضمونيّا.

ولكي لا أَسترسل في النظرية وأُبعد في العمومية، سأقف عند سيناريو مسلسل الزير سالم (تأليف: ممدوح عدوان، إخراج: حاتم علي)؛ لأَسجل ملاحَظات طالما ساورتني، تتعلق بـسيناريو هذا المسلسل السوري التاريخي الشائق، وأُضيف ملاحظة أخرى استوقفتني خلال إعادة الاستماع إلى بعض حلقاته الأولى.

فأما ما يتعلق بالسيناريو فإن منه نهاية بطل القصة المحوري، التي أَلَّف فيها الكاتب الملهم بين روايات لا تناقض في الجمع بينها؛ حيث وقع المهلهل في فخ بني بكر المحكم؛ ليعيش مأساة فقدان الذاكرة في “غيبته القسريّة”، ثم سقاه عمرو بن مالك شرابا ملوثا لم ينشب أن قاءه بالسلامة؛ لينجو من الأسر المنزلي، ثم لتكون نهايته القاضية أقرب الروايات التاريخية والمرويات التراثية إلى الطابع السينمائي، وأدناها إلى التشويق السيناريوي والتوقيع الفني. ولقد كان كاتب السيناريو عيالا على المؤلفين والرواة في نهايات “أبطاله” وفي تفاصيل أحداثه، فأمدّه الثراء الفني “الواقعي” -والتشويق الملحمي التاريخي- المستقى من المصادر الأصلية التراثية، وأغناه عن الاختلاق، ليكتفي بيسير التصرّف، وعرَضي التحوير، ونِسبي التعديل، لكنه ركن إلى مؤثرات “التلميع” و”التشويه” مائلا مع ريح المنحنى الإثاري، متبعا خط سير “المرحلة”.

مفارقة وتناقض

فكان مِن أعراض ذلك الميل وقوعه في حُفر المفارقة ومنحدرات التناقض خلال تصويره شخصية جسّاس وعرضِه نفسية الزير؛ حيث ظاهر بين عنصري الانحياز والتجرد، وثنائية التحامل والإنصاف، تبعا لتصاعدية الأحداث ومقتضى الحالة التأثيرية؛ فرفع المهلهل -في قلب الأحداث- إلى أعلى مراتب النّبل والنّجدة والإباء، ثم هبط به إلى أحطّ دركات الذّلّة والهوان والخسّة؛ لمّا نفد رصيد “نجوميته”، وحانت “نهايته” الدرامية.. لكنه -في الحالين- لم يُخرجه من فَلَك المفارقة والرسالية، ذلك الفلَك الذي سبحت فيه شخصيات المسلسل على اختلاف أدوارها وتباين مستويات تأثيرها!

وقبل أن أنتقل إلى الملاحظة الإضافية التي خالجتني على هامش إعادة الاستماع إلى بعض حلقات المسلسل، سوف أسوق ملاحظة استطرادية مدارها على “لغة” الحوار، ولا أعني هنا تلك الهنات السمجة المستهجنة والعبارات المقحمة المعتسرة، مثل كلمة “طُزْ” التي كررها شيبان بن همّام ذات لقطة عابرة (وهو يقف على ديار أعمامه)، بل أعني القاموس الفلسفي و”المعجم العصري” الذي لو وضع في سياقه الاضطراري وإطاره الرسالي لغفر للمخرج السينمائي -والكاتب الروائي- ما ليس يُصفح عن مؤلّف الكتاب التاريخي لو كان أثبته.

ومن ذلك الشذرات الفكرية واللمحات الفلسفية التي تخللت كثيرا من الحوارات -مفصلية وسياقية- ومنها حوار معبر عميق، حمله مشهد سياقي جمع بين “رجل الأعمال” امرئ القيس بن أبان و”الفضولي” ياقوت؛ حيث عرض الأوّل على الثاني مرافقته في رحلة تجارية إلى الهند، تلبية لرغبة شخصية قديمة وحاجة نفس طالما راودت التابع المأمور، وأعرض عنها التاجر الثري.. فما لبث ياقوت أن جاء معتذرا عن مرافقة امرئ القيس، شارحا السبب بكونه لبث من عمره سنين عددا وهو يعيش على حلم زيارة الهند، ويخشى إن حقق أمنية عمره المنقضي ألا يجد حلما آخر جميلا وأمنية أخرى أثيرة يعيش لها وعليها!.. فربط ابن أبان -مباشرة- بين شعور ياقوت وبين إحساس الزير سالم المتمثل في التمسك بـ”برنامج” ثأره القديم، مستنتجا أن أبا ليلى سيشعر بالفراغ المفنِّد والتقاعد المجْهِز لو وضعت “حرب الثأر” أوزارها، ولن يتكيف مع حياة “ما بعد الأخذ بثأر كليب”، بعدما ملأ الدنيا وصدّع رؤوس الناس بـلازمَته الملغِزة وأُحجيته الغامضة: “أريد أخي كليبا حيا”!

والمسلسل مليء باللقطات والمشاهد التي تعالج طبائع النفس البشرية وتعقيداتها؛ حتى لتكاد كل شخصية فيه تكون انعكاسا لتقلبات النفس البشرية في تحكم مزاجيتها، كما هو الخطّ الغالب، أو مرآة لها في عزّ اتّزانها ومثاليتها، كما في حالة ابن عباد، “البطل الحقيقي”، الذي احتفظ برزانته في محل الكياسة، وصرامته في موضع الحسم؛ فلم تنتكس شخصيته ولم تقع في التناقض، بل ظل يلجم بركان أعصابه، ويمسك حممه أن تقذف، ويلجم كامن غيظه وهو قادر أن يُنفذه، وذلك حين كانت “الناقة” عنوان مظلومية بني شيبان، و”الجمل” عنوان كبرياء التغلبيين، فبادر بسفارة إصلاح ذات البين، ثم التزم الحياد لما غلب نداءُ الثأر صوتَ الاحتواء، ورُفعت دقات طبل الحرب “الرّجوج” فوق نداء مبادرة السلام!

حقيبة اللغة

أما الملاحظة التي استوقفتني خلال إعادة الاستماع إلى بعض حلقات المسلسل الأولى فإنها تكرر مصطلح “المشروع”، الذي ردده أبو نويرة على مسامع كليب، في حوار بدا حقا أقرب إلى حوارات المسلسلات المدبلجة، وتلك مفارقة ظلت ملازمة لسيناريو المسلسل حتى لقطته الأخيرة، لكنني لا أرى من الموضوعية الفنية إطلاقَ مأخذ التخفّف من “المعجم الجاهلي”؛ لأن ذلك يعزل نصّ المسلسل عن سياقه التصنيفي؛ إذ لا يستوي أسلوب مؤلّف الكتاب وطريقة صانع المسلسل، ولا تتطابق “حقيبتهما اللغوية” حذوَ اللفظ باللفظ، والعبارة بالعبارة، فمن أَلزَم كاتب السيناريو -أو مخرجه- بما يَلزم “المصنِّف” فقد حجّر واسعا.

على أنني -حين انتبهت لكلمة “المشروع” من فم أبي نويرة التغلبي الذي جد واجتهد في محاولة إقناع كليب باستحالة تنفيذ “مشروعه” وإلزام مجتمع بني وائل به وأطْرِ العرب عليه، أحسست أني أسمع اللقطة أول مرة؛ رغم أنني شاهدت الحلقات كلها في ختمات استماع ومتابعة سابقة كثيرة.

غير أنني دفعت ذلك الاستغراب وسحبت وجه الاعتراض بمراجعة منهجية سريعة؛ إذ ظهر لي أنه لا مفهوم لكلمة “المشروع” في تلك اللقطة وغيرها، بل هي تقريب فنّي وتوصيل تأطيري يجوز للمخرج و”السيناريست” فيه ما ليس يحِل لناقل السيرة التاريخية وراوي القصة الحقيقية في حال التّصنيف. ولـ”النص التمثيلي” أحكام تخصه، وإكراهات تكتنفه.

نعم، ليس من قاموس الأولين ولا في معجم الجاهليين مصطلحات “المشروع”، و”القضية” -التي تكرر ورودها في “حوار” المسلسل- بمفهومها العصري! ولكنّ صاحب السيناريو حالفه التوفيق الفني في تمرير تلك المفردات والمصطلحات في ثوب سياقي مقنع، شفع له في الحديث ضمنيا عن مركزية إنشاء سور مدني، وأباح له ذكر “الجيش النظامي” بهذا اللفظ، وأساغ إشارته -في لقطات وحلقات متعددة- إلى “مفهوم الدولة في فكر كليب”، بل إن إغراقه ومبالغته في كثير من الإحالات وحالات التصرف كان من حسناته البليغة، ومن ذلك حوار جحدر (عفوا “ربيعة”) والحارث بن همام؛ الذي أفضى إلى إطلاق ابن همّام من “الحجْز الاحتياطي”.

وقد تفتّقت عبقرية الإبداع الإخراجي عن “تأليف شخصيات” مثل درعان، الذي مثّل شخصية التاجر الانتهازي الجشع، مقابل شخصية امرئ القيس بن أبان التاجر النبيل ذي المبدأ، ومثل حلم الطموح الجامح في شخصية جحدر، التي واكبها سيناريو المسلسل في مختلف مراحل حياتها؛ مصورا ملامح المفارقة والتعقيد، وراصدا مسارات المواجهة والتحدّي في هذه الشخصية “المكافحة”، التي عوّضت -بفضل الحرب- ما خسرته جراء السلام، فكانت مصائب القوم عندها فوائد!

ولا أعني بـ”التأليف” -الذي ذكرت آنفا- اختلاق تلك الشخصيات؛ بل أقصد نفخ روح الحضور فيها، وشحنها بالخوالج النفسية والمفارقات الموقفية. وسوف أضرب لذلك مثلا: صراع ثنائيتي العقل والقلب، الذي طبع كثيرا من حوارات المسلسل ومواقف شخصياته. ولم يقف الأمر عند الثنائيات المعنوية الخالصة؛ بل تجاوزها إلى الثنائيات الشخصية كما في صراع إرادة الأخت ورغبة الزّوجة الذي مثّلته شخصيتا الجليلة والزّهراء، ونجح كليب في “محاصرته” بما أوتي من حضور الصرامة وقوة الشخصية، بدون أن تجرفه نوازع مطاوعة الأخت، أو تخطفه نوازغ مسايرة الزوجة.

ثنائية التناقض والمفارقة

من ملامح الاختلاف بين رواية المؤلّف ورؤية المخرج ذلك “التدخل” الذي أظهر به المخرج شخصية جساس مندفعة ثائرة في زمن “المظلومية”، ومستبدة دكتاتورية في أيام السلطة، والحقّ أنه لم يكن يعرض شخصية جساس “الواقعية” بتفاصيلها “التاريخية”؛ وإنما كان يعالج من خلالها تلك المفارقة الإنسانية الصارخة، وذلك التناقض السياسي العجيب، الذي يفرزه الانتقال من خط المعارضة إلى دائرة الحكم؛ حين يتغير الواصل إلى عرش الحكم -أو كرسي الرئاسة- فيقع فيما كان يرفض من سياسات قمعية، ويمارس ما كان ينتقد من تعامل قاس. كل أولئك في ظل المفارقة، وتحت سقف التناقض.

ورغم الومضات الذهنية والالتماعات الفلسفية المحمّلة بـ”الرسالية”، وقع العمل في مبالغات “تلقينية” عجيبة، يمكن أن يمثل لها بحوارين منفصلين للحارث بن همام وهجرس بن كليب (في الحلقة قبل الأخيرة) حين ظهر الاثنان شابّين مثقّفين من مدمني وسائل الإعلام، يتقصيان جديد الأخبار ويتتبعان مستجد الأنباء العالمية، فيستشرفان ما وراء خبر غزو أبرهة الحبشي، ويحللان دلالات قدوم قواته على ظهور الفيلة، ليتقدم ابن عباد إليهما بمقترح يتطلع فيه إلى وضع “خريطة سلام دائم” تضمن لأجيال المستقبل وسكان المنطقة آليات العيش المشترك، وتدرأ عن مكونات المجتمع البكري/التغلبي غوائل التفكك والتأزم، بعدما وضعت حرب أبناء العمومة أوزارها، وقد جمع “المؤلّف” في إغرابه هذا بين “الرسالية” و”تجاوز الزمانية”، وتلك من الميزات البارزة في الدراما التاريخية السورية.

ويبقى مسلسل “الزير سالم” عملا فنيا بديعا، من أحسن ما أنتجت الدراما التاريخية العربية، رغم تطرق المآخذ الشكلية والمضمونية إليه!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى