ثقافة وفنون

الساخطة على هوليود.. من أين تستمد “نيكول هولوفسينر” قوتها؟

إنها “طبيبة السيناريو”.. هكذا دٌّون توصيف عمل “نيكول هولوفسينر” على بعض الأفلام الضخمة من إنتاج هوليوود، إذ وظفت موهبتها في الكتابة المتماسكة في حياكة الشخصيات وإعادة صقلها لأدوار جسدها نجوم مثل: “سكارليت يوهانسون” و”فلورنس بوغ”، كما بفيلم “الأرملة السوداء”.

إنها مخرجة وكاتبة سيناريو أمريكية مستقلة موهوبة، تعد من القليلات اللائي جمعن بين الإخراج والتأليف منذ بداية مسيرتهن الفنية في مرحلة مبكرة نسبيا، بل يعتبرها كثر شخصية رائدة في السينما الأمريكية المستقلة خلال التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

كتبت “هولوفسينر” وأخرجت سبعة أفلام طويلة، تشتهر جميعها بكوميديا ​​الموقف، وأحيانا السخرية اللفظية والتعليقات الاجتماعية الكاشفة، والأجواء الدافئة التي تشعرنا بأن بعض أبطالها وبطلاتها قريبون منا، أو بهم شيء منا، أو أناس صادفناهم في واقع الحياة دون أن تفقد الصور والمواقف الدرامية طزاجتها وطرافتها وجدتها. ناهيك عن أعمالها في التلفزيون والمنصات أو كتابتها سيناريوهات من إخراج آخرين مثل “هل ستغفر لي يوما؟” (Can You Ever Forgive Me?).

عندما طردها ريدلي سكوت

تعد “هولوفسينر” نموذجا كاشفا لتناقضات هوليوود وانحيازاتها، إذ تقلل من شأنها ولا تمنحها الفرصة كمخرجة لتصنع أفلاما كبرى، لكن تلك الاستوديوهات وشركات الإنتاج العملاقة تلجأ إليها لكتابة، أو لإعادة كتابة سيناريوهات الأعمال الضخمة، أو تطلب منها أحيانا صقل بعض الشخصيات وتلميع تفاصيل أخرى بداخل السيناريو. وهي ستقبل لأنها كاتبة سيناريو محترفة ولأنها “تحقق في تلك المهمة التي قد تستمر ثلاثة أسابيع فقط أكثر مما تحققه ثلاثة أفلام مجتمعة من توقيعها كتابة وإخراجا”.

لكن السؤال الآن: هل يا ترى سيكون من السهل عليها رؤية آخرين يرسمون مشاهدها ويوجهون أبطالها؟ هي ذاتها تنفي ذلك وتؤكد على صعوبته، وتتذكر رد فعل “ريدلي سكوت” عندما قال لها: “اخرجي من هنا، لا أريد سماع رأيك”، تعقيبا على إدلائها برأيها أثناء تصوير بعض المشاهد التي قامت بكتابتها بفيلم “المبارزة الأخيرة” (The Last Duel) حيث كانت شريكا أساسيا في كتابة السيناريو مع “مات ديمون” و”بن أفليك”، بل كانت المسؤولة بالكامل عن حياكة ونسج تفاصيل الشخصية التي قدمتها النجمة “جودي كومر” بذات الفيلم.

لا فضل لـ”وودي آلان”، وحلم الكتابة أولا

منذ بداية وعيها كانت “هولوفسينر” تحلم بأن تكون كاتبة، تعترف بأنها «لم تكن تعرف ماذا يعني أن تكون مخرجة، تعلمت ذلك فقط حين درست بمدرسة الفيلم وصنعت فيلما قصيرا تصفه بالسيء، أو الفظيع»، على حد تعبيرها أثناء لقاءاتها بالجمهور التشيكي الذي احتفى بثلاثة من أفلامها: “من فضلك أعط” 2010 ، “قيل ما يكفي” 2013، و”أنت تجرح مشاعري” 2023، وذلك في إطار برنامج استعدادي لتكريمها -كان مسؤولا عنه الباحث والناقد السينمائي المصري جوزيف فهيم- وذلك أثناء الدورة الـ58 من مهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي -الذي يعد المهرجان الأبرز والأهم في وسط وشرق أوروبا- والذي انعقد خلال الفترة من 28 يونيو/حزيران وحتى 6 يوليو/تموز 2024، إضافة لعدد آخر من الحوارات من بينها حوار امتد لما يقرب من ساعة ونصف أداره فهيم وحضره الصحفيون والنقاد.

الناقد السينمائى المصري جوزيف فهيم أثناء تقديم المخرجة الأمريكية للجمهور التشيكي

خلال الحوار لفت جوزيف فهيم بأسئلته الانتباه لمناطق جوهرية حول خصوصية مولد “هولوفسينر” ونشأتها في نيويورك الستينيات، التي سادتها أعمال العنف آنذاك، واختيار ثيمات أفلامها التي تؤثر على تلقي الرجل أيضا رغم أنها غالبا ما تكون عن النساء، وتكرار التجربة مع “جوليا دريفوس” في أكثر من عمل، واختلاف شخصياتها النسائية، مما منح الفرصة للتعمق في فيلموغرافيا “هولوفسينر” المؤثرة وأسلوبها السردي المتفرد.

كذلك، كان حديثها مؤثرا للغاية عقب عرض فيلمها “قيل ما يكفي” والذي يعد الأكثر نجاحا تجاريا.. إذ امتد لقاؤها بالجمهور التشيكي، وأفاضت في الحديث عن بطل الفيلم الراحل” جيمس غاندولفيني” قائلة: “كان جيم رائعا، كان يتمتع بروح الدعابة المميزة. مات قبل أن يتمكن من مشاهدة الفيلم. إنني أفتقده، ومشاهدة هذا الفيلم أمر عاطفي ومؤثر للغاية بالنسبة لي”.

وردا على سؤال من أحد الحاضرين عما إذا كان بإمكانها وضع قصصها خارج لوس أنجلوس أو نيويورك، فأجابته: “أنه قرار اللاوعي.. عادة أبدأ بالشخصيات وأنتظر لأرى إلى أين سوف تأخذوني، لا أستطيع صياغة ملامح شخصياتي الحضرية النموذجية في كارلوفي فاري.. لكن ربما ينجح الأمر في براغ”. ثم اختتمت حديثها قائلة: “سيكون هذا أجمل أفلامي”.

على صعيد آخر، تغضب “نيكول هولوفسينر” حين يشير البعض لتأثير “وودي آلان” عليها، إذ تعيد الفضل الأول لأسرتها الفنية التي ساندتها ودعمتها حين اختارت مهنة الإخراج في هذا الوقت المبكر، فآنذاك لم ينظر إليها على أنها فكرة مجنونة، وهي عندما فكرت في الكتابة للسينما اختارت ذلك لأنها كانت تشاهد أفلاما سينمائية كثيرا، فوالدها كان رساما ونحاتا، وزوج أمها كان منتجا منفذا لعدد من أفلام وودي آلان، كذلك والدتها كانت مصممة ديكور ببعض أفلام آلان، ربما بفضل ذلك -إضافة للتواصل العائلي- عملت “نيكول” كمساعد إنتاج بأحد أفلامه “كوميديا ​​جنسية ليلية بمنتصف الصيف” (A Midsummer Night’s Sex Comedy) عام 1982. وكذلك بفيلم “هانا وأخواتها” 1986، وإن كانت تنفي أنها دخلت غرفة المونتاج بهذا الأخير، مؤكدة أن “وودي آلان” لم يسمح لها بذلك، ولا تعتبره قد أثر في مسيرتها المهنية، وأنها لم تتعلم منه شيئا، وإن كانت لا تٌنكر أن أفلامه المبكرة كانت مصدر إلهام كبير بالنسبة لها”.

الجرأة في طرد جوليان مور

تتذكر “هولوفسينر”، ببعض المديح المتحفظ، أنها صنعت فيلمها التدريبي القصير الأول تحت إشراف “مارتن سكورسيزي” وأنه لم يعجب به، ثم صنعت فيلما آخر أفضل، قصير مدته خمس دقائق بعنوان “غاضب” لعبت بنفسها فيه دور الابنة حيث يحكي عن صعوبة الانفصال خاصة عندما يكون مع الأم.

تلك الدقائق الخمس هي التي قدمتها إلي المهرجانات الدولية مثل “صاندانس” وسهلت لها -قليلا- مهمة البحث عن تمويل لفيلمها الطويل الأول “السير والتحدث” (Walking and Talking) الذي انتهت منه عام 1996 ولفت إليها الأنظار، وهو بدوره سهل لها -بعض الشيء- مهمة البحث عن تمويل لأفلامها التالية وإن بميزانيات محدودة، إذ لم تفتح لها بوابات هوليوود على مصراعيها، ولم تكن أبدا ابنة مدللة لديهم.

حين تسأل عن التطور في أسلوبها الإخراجي، ترجح صاحبة “جميل ومذهل” (Lovely & Amazing) أنه لم يتبدل لكن شخصيتها نفسها هي التي تطورت، وأنها ازدادت ثقة في نفسها، ونتيجة هذه الثقة بالنفس توقفت عن محاولة الظهور كأنها امرأة ذكية لترضي الآخرين أو لتقنعهم، مثلما زادت قدرتها على اختيار فريق العمل الذي ترى أنه سيحقق رؤيتها، صار عندها حرية أكبر في اختيار نجوم ونجمات أفلامها، ربما هذا أيضا يفسر جرأتها في اتخاذ قرار حاسم بطرد النجمة جوليان مور واستبعادها من بطولة فيلم ” هل ستغفر لي يوما؟”.

قبل بدء التصوير بستة أيام فقط، بسبب رغبة مور في محاكاة تجربة “نيكول كيدمان” في أداء شخصية “فرجينيا وولف” بتركيب أنف صناعية، ثم ارتداء بدلة صناعية تزيد من وزنها، لتحقق المواصفات الفيزيائية لشخصية “لي إسرائيل” كما هي في الحقيقة، إذ يعتمد الفيلم على قصة مقتبسة من الواقع قامت “هولوفسينر” مع “جيف ويتي” بكتابة السيناريو له، لكن الطرد المفاجئ لـ”جوليان مور” رغم أنه أنقذ الشخصية  الدرامية، لكنه جعل “هولوفسينر” تبدأ من جديد رحلة البحث عن بطلة أخرى مناسبة، كان “القرار مؤلما” على حد وصفها لأنها كانت تعيش كل التفاصيل التي أعدتها للفيلم، ثم ارتبطت بإخراج عمل آخر “ارض العادات الثابتة” (The Land of Steady Habits) ما جعلها تعتذر عن الفيلم ليذهب إلي المخرجة “مارييل هيلر” والتي بدورها اختارت “ميليسا مكارثي” لدور البطولة.

انتقاد الأوسكار

” هل ستغفر لي يوما؟ “إنه ذات العمل الذي ترشحت عنه “هولوفسينر” للأوسكار الوحيد في حياتها إلى الآن، كأفضل سيناريو مقتبس، وهو الأمر الذي يثير حنقها بشدة، وسخريتها أيضا، إذ تستنكر ترشيحها لجائزة عن عمل ليس من إبداعها بالكامل، بينما قصص أفلامها المتفردة والتي كتبتها بنفسها لم ترشح للأوسكار، وإن كانت تفسر الأمر في مناسبة أخرى بأن “جوائز الأوسكار لا تولي الكثير من الاهتمام بالأفلام الكوميدية، ومثلها جوائز غولدن غلوب، فالأعمال الكوميدية الصغيرة، في أغلبها، لا تؤخذ على محمل الجد”.

لكن سخطها على هوليوود وسخريتها من الأوسكار يتزايد أيضا بسبب حرمان نجوم أفلامها من جوائزه، فرغم قوة وصدقية شخصياتها وبراعة نجومها في الأدوار الأولي -مثل “جوليا دريفوس” و”كاثرين كينير”، و”جيمس غاندولفيني”- لكن جوائز الأوسكار تجاهلتهم جميعا، خصوصا “جيمس غاندولفيني” الذي قدم أفضل أدواره في “قيل ما يكفي” والذي كان أخر أعماله قبيل رحيله المفاجئ. الحقيقة أنها لا تؤشر بأصابع الاتهام للأوسكار فقط فيما يخص أفلامها، ولكنها قالت إن المخرجة “مارييل هيلر” هي أيضا تعرضت للغش بعدم حصولها على الأوسكار عن ” هل ستغفر لي يوما؟”.

هل يرجع السبب في ذلك الاستبعاد من الأوسكار و”الغولدن غلوب” إلى أنها تصنع أفلاما تنتمي للسينما المستقلة، أفلاما تندرج تحت تكلفة إنتاجية صغيرة لا تتجاوز ستة ملايين؟ هل هي التكتلات والكيانات الاقتصادية الضخمة التي تحرك الأمور والجوائز أحيانا أما أنها المصادفات والحظوظ؟ أيا كانت الإجابة فالمؤكد أن الأفلام الجيدة هي الأطول عمرا، فالناس ينسون الجوائز بعد قليل ويبقي الزمن هو الاختبار الحقيقي والحكم الأصدق.

عن لحظات الإلهام والأمور المحرجة

اللافت أيضا، أن المرء يستطيع أن يشاهد ثلاثة أو أربعة أفلام من توقيعها في يوم واحد دون أن يشعر بالضجر. على العكس تماما فإن أفلامها تفجر الضحك من الأعماق، شخصيات أفلامها تلمس القلب، ستجدهم مختلفين، مفعمين بالحيوية والصدق.

ولعل هذا يفسر لماذا لم يفشل أي من أفلامها؟ فجميعها حققت مكاسب مادية، ومنها مثلا “قيل ما يكفي” إنتاج 2013، الذي حقق 26 مليون دولار في جميع أنحاء العالم. فالكوميديا النابعة من التناقض ومن المواقف الإنسانية غير المتوقعة عبر مفاصله المشهدية تفجر الضحك السلس، لكن تلك الأفلام حتى تتمكن من الخروج للنور “كان لابد لها من معجزة، ولابد أن يمنحها أحد المنتجين خمسة أو ستة ملايين”، هكذا تؤكد “هولوفسينر”.

هلا غفرت لي يوما “هو العمل الوحيد في حياتها الذي ترشحت عنه “هولوفسينر” للأوسكار

حين تسأل عن لحظات الإلهام في حياتها، وكيف تبدأ أفلامها تجيب: “أنا أقول أشياء، وكذلك صديقاتي، أحيانا تستوقفني تلك الآراء، وأحيانا لا أفكر فيها وأعتقد أنني نسيتها، لكنها تظهر فجأة، فأنا لا أخطط للسيناريو، لا أعرف ماذا سأفعل بدقة، لكنني أنطلق من فكرة أو ثيمة وأطرح على نفسي التساؤل: ماذا لو حدث هذا لي؟ هل أستطيع أن أتعامل معه؟ وأثناء محاولة الإجابة على السؤال تتداعي أشياء قلتها في بعض المرات، أو تلك التي قالتها صديقاتي، تتداعي دون قصد مني.

مثلا بفيلمي “أنت تجرح مشاعري” والذي يتحدث عن دعم الأزواج لبعضهم بشكل مبالغ فيه، أنطلق من تساؤل ماذا لو ارتبطت أنا بإنسان لا يحب أفلامي؟ ماذا لو اخترت فريقا من الممثلين لا يحب أفلامي. أنا أحب كتابة المواقف غير المريحة أو المزعجة. إنه أمر ممتع للغاية، لأنه أثناء عملية الكتابة لا يحدث لي في الواقع الحقيقي، وليس علي أن أتصرف إزاءه لأن الأمر كله افتراضي.

الكذب خوفا أم دعما؟

من يشاهد فيلم “هولوفسينر” “الأصدقاء الذين يملكون المال” (Friends with Money) المنتج عام 2006، سيجد مشهدا دراميا يشي بأنه مولد فكرة “أنت تجرح مشاعري” حينما يتم الشجار بين “كريستين” وزوجها “ديفيد” بسبب قسوته في مصارحتها برأيه فيها، إذ تهتم بمشاعر وآراء الآخرين فيها مما يحملها مزيد من الأعباء، ويحتدم الأمر بينهما فتخبره بأنها لم تعد تحتمل رائحة فمه التي صارت كريهة جدا مؤخرا. وبينما يبدي الزوج عدم انزعاجه بالملاحظة القاسية، وترحيبه بمعرفته ذلك لأنه -في رأيه- من الضروري أن تلفت الزوجة نظره لذلك ليصلحه، لكننا قرب نهاية العمل نعرف أنه ذهب لزيارة طبيب نفسي وربما ينفصل الزوجان.

شخصيا يذكرني الفيلم الأحدث بشيء ما من سينما الإيراني أصغر فرهادي، وهو براعته في رسم مشاهد سينمائية محاكة بمهارة وتلقائية تثبت أن الجميع يكذب، أن لا أحد بريء تماما، مما يخلق أزمة ثقة.

الاختلاف بين الأمريكية والإيراني يكمن في أن فرهادي يحكي عن الكذب بسبب الخوف من العقاب أو الخسارة، أما “هولوفسينر” فتتحدث عن الكذب الأبيض -إن جاز التعبير- من أجل دعم الأهل والأحباب، وربما عند “هولوفسينر” يحمل الكذب أيضا قدرا ما من الخوف على جرح شعور الأقارب أو الأصدقاء إذا تمت مواجهتهم بالحقيقة، فهل يكون قول الصدق مدمرا؟ وهل يعتبر الكذب في تلك الحالة دعما حقيقيا مفيدا أم أنه مضر لأنه يجعل الآخرين يعيشون في وهم كبير ولا يعرفون حقيقة إمكانيتهم وأخطائهم لتطويرها.

مشهد آخر من فيلم “قيل ما يكفي” (Enough Said)

فالزوج يكذب بشأن ركاكة رواية زوجته، والزوجة بدورها تصفه بالطبيب النفسي العظيم بينما هو فاشل ومرضاه ينتقدونه، والأم تصف ابنها بالكاتب العظيم بينما لا يزال متعثرا في كتابة أول مسودة له، وأختها تصف زوجها بالممثل العبقري بينما لا أحد يعرفه، وأحد الجمهور حين يتعرف عليه يرفض التقاط صورة معه، صحيح أن فيلم “أنت تجرح مشاعري”  يقلب فكرة المشهد السابق بين كريستين وزوجها ديفيد، وكأن المخرجة تؤكد على أن مخاطر المكاشفة أفضل من المجاملات، فالعمل بأكمله يجعلنا نراجع مواقفنا بشأن المجاملات الإنسانية والأوصاف الكاذبة ويؤكد على أن الصدق هو حقا أفضل سياسة في العلاقات الإنسانية، لكن تكمن القضية في كيفية قول هذا الصدق بأسلوب متجرد من القسوة، أسلوب داعم مشجع لا ينفر، وغير هدام.

بعيدا من الجندرية، رغم تعدد النساء

إن أهم ما يميز سينما “هولوفسينر” أنها لا تستند على الحبكة التقليدية، فهي تعتمد على فرادة الشخصيات والحوارات الدافئة أو الهجومية المتبادلة بينهم، وقراراتهم المفاجئة المميزة. إن الحركة الظاهرية بأفلامها قليلة، لأنها تكتفي بالحراك القائم المتناغم أو المتنافر بداخل الشخصيات. إنها قادرة على سرد القصص بصدق، على قول ما لا يقال عادة بين الأزواج والأصدقاء، وتعبر عن مخاوفهم بشكل سلس وتلقائي، وأحيانا كثيرة تنطق بخواطرهم الجريئة.

ورغم أن أفلامها عادة تحكي قصص نساء في المقام الأول، لكنها على عكس ما قد يتخيل البعض أنها قد تنحاز للنساء، أو أنها تطرح قضاياهم بوجهة نظر مغايرة لأطروحات المخرجين الرجال، إنها لا تفعل لا هذا ولا ذاك، إذ تحكي عن الرجل والمرأة بصفتهما الإنسانية وليس من منطلق الجندرية، فتكشف كيف أن النساء قد يكنّ لئيمات أو عنصريات أو شريرات كما بشخصية المرأة العجوز التي تجاوزت التسعين بفيلم “من فضلك أعط” حيث تجد دوما خطأ في جميع الناس وفي كل شيء، كما أنها جاحدة للجميل.

وطبعا للرجال حظ من هذا الشر أيضا بأفلام أخرى. ففي بعض أفلامها تتنمر النساء على أحد الرجال كما بفيلم “الأصدقاء الذين يمتلكون المال”، فمثلا شخصية أرون -التي يجسدها سيمون ماكبرني- يتهم أغلب الوقت من النساء بأنه مثلي الجنس، واثنتين من صديقات زوجته التي تعمل مصممة الأزياء (تجسد دورها فرانسيس ماكدورمان) على الأقل يتنمرن على الزوج أحيانا ويتعاملن معه على أنه شاذ، بسبب أسلوبه الناعم في الكلام وبسبب اهتمامه بالملابس، وحركات يديه، بينما ندرك تماما مع النهاية أنه ليس كما يصفونه، والأشد قسوة أنه يدرك تلميحاتهن لكنه يواصل محبته لهن.

مشهد من فيلم “أنت تجرح مشاعري”

إذا، لا ترسم “نيكول هولوفسينر” شخصيات نسائية من أجل الدفاع عن النساء، السبب الرئيسي أنها امرأة خبرت هموم وحيل ونفسيات النساء، إنها متأملة كبيرة ومراقبة جيدة لتصرفات وسلوكيات البشر، لذلك صارت ماهرة في رسم الشخصيات بكل نقاط ضعفها أو قوتها، بكل عفويتها أو انتهازيتها، سواء كانت نساء أو رجالا بشكل إنساني دون أن تنحاز لأحد ضد الآخر.

مثلا بفيلم “قيل ما يكفي” قدمت كيمياء الحب التي لا علاقة لها بالشكل أو العيوب والتي يسهل تحطيمها إن لم يبذل الطرفان جهدا لحمايته، مع ذلك نشعر أن المؤلفة لا تسعى لإدانة طرف دون الآخر من الأزواج المنفصلين أنفسهم، إنما تترك المواقف تحكي بوضوح لماذا ينفصل الأزواج، لماذا في مرحلة ما يصيروا غير قادرين على الاحتمال أو مواصلة الحياة مع بعضهم؟ ليس لأن أحدهم سيء، والآخر ملاك، لكن لأنهم لم يعودوا مناسبين لمواصلة الحياة سويا، بسبب اختلافات في الطباع والميول والهوايات والرغبات وتبدل في الشخصيات، إنها مسألة اختلاف وتغير وليست إدانة.

مقاومة الإحباط وعدم القسوة على الذات

تماما مثل قدرتها على تحليل شخصيات أعمالها، تقوم “هولفسينر” بتحليل أعمالها، ولحظات الضعف التي تمر بها، وشعورها بالإحباط الذي يستحوذ عليها أحيانا، لكنها تقاومه بمشاهدة بعض أفلامها التي تعيد إليها الثقة، كذلك تنتقد نفسها وإنتاجها السينمائي، فلا تستطيع أن تتفادى هذا، تكتشف عيوبها، تحددها، لكنها واقعية إذ لا تقسو على نفسها، قائلة: لقد تم إنجاز العمل ولا أمتلك الآن فرصة إعادة التصوير، علي الآن التفكير في عملي القادم، ومن ثم تتصالح مع نفسها.

المخرجة “نيكول هولوفسينر”

رغم ما سبق، تمتلك رؤية لا يجانبها الصواب لوضعيتها كامرأة وصانعة أفلام إذ تعترف بأن “حالة الصناعة صارت قاتمة للغاية بالنسبة للأشخاص الذين يكتبون هذا النوع من الأشياء التي أكتبها، لذلك أنا ممتنة لأنني قادرة على الاستمرار في القيام بذلك”.

لكنها في مناسبة اخرى تقول: “أنا متأكدة من أنه من الصعب على النساء صناعة الأفلام، خاصة أن نوع الأفلام التي ترغب النساء في إنتاجها بشكل عام لا يكون ناجحا جماهيريا بالضرورة. هناك عدد قليل جدا من النساء في العديد من مناصب السلطة. إن القول بأنك تريد أن تصبح مخرجا يعني المخاطرة بأن تبدو بغيضا ومتغطرسا، وأعتقد أن النساء يخفن من الظهور بهذه الطريقة أكثر من الرجال”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى