الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة في عالم الكتابة
نحت الروائي المصري إبراهيم فرغلي، لنفسه مكانة مرموقة في عالم الفانتازيا والخيال الأدبي بما يملكه من خيال خصب وقدرة على نسج عوالم سردية فريدة، واستطاع أن يقدم للقارئ العربي تجارب روائية، منها “قارئة القطار”، و”أبناء الجبلاوي”، و”الفتاة الآلية والأشجار آكلة البشر”، و”معبد أنامل الحرير”.
هذه الأعمال لم تكن مجرد سرد لحكايات خيالية، بل كانت بمثابة مرآة عاكسة لواقعنا المعاصر المعقد، تستمد قوتها من التاريخ وتجارب الحياة اليومية، وفي هذا الحوار، يفتح فرغلي أبواب تجربته الإبداعية على مصراعيها، ليطلعنا على أسرار الكتابة الروائية وخباياها. يتناول بعمق وشمولية قضايا جوهرية تشغل بال المبدعين والنقاد على حد سواء، من مقومات النجاح في عالم الرواية إلى تحديات الذكاء الاصطناعي، ومن إشكاليات الأجناس الأدبية إلى دور ورش الكتابة في صقل المواهب الشابة.
ويغوص فرغلي في أعماق الظواهر الأدبية المعاصرة، مسلطا الضوء على قضايا شائكة كالعلاقة بين اللغة والأدب، وظاهرة الشللية الأدبية، وتحديات الحوار بين الأجيال. كما يقدم رؤيته الخاصة حول مستقبل الأدب العربي في ظل التحولات التكنولوجية والثقافية المتسارعة، وفي هذا الحوار يمرر بعض خبراته في مضمار الرواية والكتابة الإبداعية إجمالا.
-
ما مقومات الروائي الناجح من خلال خبرتك في هذا المجال؟ وهل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يقوّض سلطة المبدع؟
هذا السؤال إشكالي في الحقيقة، لأن مفاهيم النجاح اليوم مختلفة تماما عما كان متفقا عليه في السابق. هل الكاتب الناجح هو الكاتب الذي يجيد تسويق أعماله؟ أم هو الكاتب الذي يخلص لكتابة نصوص تجريبية ورصينة؟ أم هو الكاتب الذي يكوِّن جمهوره على شبكات التواصل الاجتماعي ثم يعلن عن كتبه؟ أم الكاتب الذي يحصل على جوائز؟ لهذا أعتقد أن السؤال يتعلق بمعايير جودة النص الأدبي وهذا معياري للنجاح. وهذه الجودة في تقديري تتحقق وفقا لمعايير تتعلق بتاريخ النص السردي، وبتجارب روائية مختلفة من حيث المضمون وأشكال السرد، وتتضمن أو تكشف عن معجم لغوي ثري وتتسم بالفرادة من حيث الأسلوب. أما بالنسبة للذكاء الاصطناعي فهو موضوع الساعة حاليا، لكني لا أعتقد أنه يمكن أن ينافس الإبداع، مهما بلغت قدراته على تجميع فقرات ونصوص من هنا وهناك.
لكن ممكن أن يكون هناك نوع أدبي يعتمد على الذكاء الاصطناعي ويعلن ذلك، ويكون له جمهوره كما هو شأن روايات الرعب أو ما شابه. لكن التدليس باستخدام الذكاء الاصطناعي من قبل عديمي الموهبة هو موقع الخطورة، وإن كنت أيضا على يقين من التطبيقات الجديدة القادرة على كشف نصوص الذكاء الاصطناعي. أعتقد أن الذكاء الاصطناعي مثل أي ابتكار حديث له سلبيات وإيجابيات وعلينا تجنب السلبيات. وهناك اليوم بين مفاهيم النجاح الامتثال لما يريده القارئ، وهذه ظاهرة عجيبة لأن القارئ في الواقع متغير وكتلة غير منسجمة والامتثال لها بلا شروط خيانة لشروط النص الذي تفرضه أفكار الكاتب والأسلوب الأدبي الذي يقترحه.
-
لكل عمل روائي قصة معاناة ورحلة من الإعداد المتقن.. مع ذلك نرى بعض الشباب حديث السن يصدر عددا من الأعمال، ما تقييمك لهذه الظاهرة؟
الاستسهال هو سمة من سمات هذا العصر، وأيضا هناك جيل جديد يؤمن بفكرة “الوصفة”، ويعتقد أن هناك وصفات جاهزة لكل شيء وليس عليه إلا اتباع الخطوات. وهذا ينتج منتجات صناعية مقولبة تفتقد لمعايير فنية وأدبية كثيرة. لا يمكن أساسا لكاتب أن يبدأ الكتابة بدون الاطلاع على مئات التجارب السردية والمدارس الأدبية وفي الثقافات المختلفة ثم يبدأ في البحث عن صوت سردي متميز ومختلف. لكننا اليوم في عصر عجيب. عصر المتشابهات في مجالات الفنون والأدب، وحتى في الغناء ستجد الأصوات متشابهة والأداءات متماثلة لأن الوصفة والقولبة هي السمة العامة.
-
لماذا يعد جمهور أدب الفانتازيا قليلا في مجتمعاتنا العربية؟
المجتمع العربي في زمن النهضة العربية التي واكبت العصر العباسي أو زمن الاندلس، على سبيل المثال، اتسم بالخيال الواسع، وكذلك النهضة الهائلة في مصر القديمة لم يكن من الممكن تحققها إلا لأن الثقافة كانت تتمتع بالخيال الخصب الذي يسّر الأدوات التي بها تم تشييد المعابد والأهرامات والأفكار عن الحياة بعد الموت. ولهذا شخصيا أعتقد أن نفور الجمهور من الفانتازيا يرتبط بسمة عامة هي فقر الخيال بشكل عام. وضيق الأفق. كما يرتبط بالموات النقدي الذي تعاني منه الثقافة العربية في الوقت الراهن.
لا يوجد أساسا تنظير عربي حول الفانتازيا وتاريخها وأنواعها المختلفة. ولا تتوفر نظريات أدبية عربية عن الفانتازيا، ولا استعادة لتراث الخيال العربي نقديا. وإذا وجدت فإنها ترتبط بنص مثل ألف ليلة وليلة فقط، بالرغم من أن هنا فروعا أدبية لا تنتمي للرواية التقليدية مثل الخيال العلمي أو بعض الروايات التي تميل للواقعية السحرية وكذلك أعمال فانتازيا وفانتازيا تاريخية.
-
لعل الفوارق بين الفانتازيا والواقعية السحرية مربكة ومتحركة.. برأيك هذا يفيد الأجناس الأدبية؟
جزء من هذا الارتباك ناتج من التقصير النقدي. النقد لا يواكب ويعمل على التصنيف وتوضيح الفوارق والاختلافات وإعادة تعريف النوع الأدبي وفقا لمقتضيات النصوص. وكذلك من قلة التجارب الأدبية المهتمة بالفانتازيا. وثمة انطباع شائع بأن الفانتازيا نوع أدبي أخف (أي أدب خفيف) من الواقعي، أو لا يعبر عن الواقع الاجتماعي .
لكن في الغرب يمكن وصف الفانتازيا بأنها كتابة ثورية من حيث حجمها الهائل عددا وأفكارا وخيالا، ومن ثم تنوعها إلى فئات عديدة. وعلى سبيل المثال فقد كان النص الشهير “هاري بوتر” لجي كي رولنج مصنفا كواقعية سحرية لفترة طويلة حتى بدأ الانتباه في الفترة الأخيرة لأن جانبا كبيرا من الأحداث لا ينتمي للمكان الواقعي بل لمكان خيالي مختلق وهذا لا يتفق مع تعريف الواقعية السحرية التي يأتي الفضاء الواقعي كشرط من شروطها، بينما التفاصيل الفانتازية تكون متمثلة في بعض التفاصيل التي تفارق منطق السببية الواقعي. لهذا تم ابتكار تصنيف باسم “خيال حضري (Urban Fantasy) وهذا أحد أهم الاختلافات بين الثقافتين في هذا المجال وهي دلالة على مجتمعات تحب الخيال وما يقدمه من دلالات رمزية.
-
كيف تسهم ورش الكتابة في تقديم الأدباء الشباب؟ وما أبرز نقاط الضعف التي تلمسها خلال تقديم الورش؟
شخصيا لا أعتقد أن الورش تخلق كتابا وإنما تساعد من لديه استعداد ويمتلك المقومات الرئيسة بحيث توفر له بعض الوقت في الانتباه لأساليب في الكتابة أو تقنيات سيكون من الصعب عليه أن يعرفها أو يتقنها من خلال خبرته الشخصية إلا بعد مرور زمن طويل.
-
يعمد معظم كتّاب الجيل الصاعد إلى تسطيح المعاني وتوظيف كلمات الشارع في الأعمال الأدبية.. ما العلاقة الصحيّة بين اللغة والأدب؟
أنا ممن يؤمنون بأن النص الأدبي ليس مرايا للواقع، وإنما هو خلق لواقع فني مُواز، أو محاولة لخلخلة الواقع بحيث يمكننا الانتباه إلى المألوف بتبين غرابته أو عدم معقوليته أو حتى تفكيكه. أما إعادة تقديم أو نقل الواقع فهذا ليس له علاقة كبيرة بالأدب كما أفهمه. ولا أعرف حتى ما وجه الإبداع أو الفرادة في سلب الكلمات من الشارع لتنطق بها شخصية روائية. وهذا موضوع فيه جدل طويل على أي حال. يتهم نجيب محفوظ بأنه أنطق العوام بالفصحى، وهذا في ظني دليل ساطع على فهم محفوظ للأدب بوصفه خلق واقع فني له مواصفات أدبية محددة، يحاول بها أن يمثل الواقع لكي يختبره ويطرح أسئلته.
-
حوار الأجيال مسألة حتمية قد تفيد الطرفين.. من خلال تجربتك الإبداعية كيف عايشت هذا الحوار؟
أظن أن الحوار بين جيلنا؛ أي جيل التسعينيات، وبين الأجيال السابقة علينا عكس احترام الطرفين للاختلاف والاتفاق على مستقبل السرد الأدبي. لا أظن أن هذا الحوار استمر بيننا وبين الأجيال اللاحقة علينا لأسباب أظنها تعود للأجيال الجديدة وتصوراتها المختلفة عن العالم والحداثة وعن الحياة. لكن بشكل عام فنحن عربيا نفتقر، وأكاد أقول تماما، لمفهوم الحوار ليس بين الأجيال فقط بل وبين الأجيال المتماثلة. لا نتعلم أساسيات امتلاك القدرة على الحوار والإنصات وكيفية التعبير بذهن بارد عن الفكرة.
-
هل قدمت أندية القراءة بديلا -ولو مؤقتا- لغياب النقد عن الساحة الأدبية العربية؟
لا شك أن الكثير من أندية القراءة بالإضافة إلى مساحات ومنصات الفضاء الإلكتروني، تحتل اليوم مساحة كبيرة من حيز النقد الأدبي، خصوصا مع انحسار المنابر النقدية الورقية تباعا. وأفرَزت مع الوقت ألوانا من الخبرات النقدية حتى وإن لم تتمتع بالمنهجية، ولكنها أضعف الإيمان على الأقل.
-
الشلليّة الأدبية.. كيف تقرأ تناميها المطرد؟ وما أثرها في الحراك الثقافي العربي على صعيدي التلقي والنقد؟
غياب الحركة النقدية أو ضعفها سبب من بين أبرز أسباب ظهور الشللية، لأن الشللية تتخلق بين مواهب ضعيفة في الأساس، ومع ظهور مناخ يضم اللاكفاءات في مواقع التقييم الموضوعي للسرد يتضاعف دور الشللية مع الأسف. لكن كما يقال لم تتمكن الشللية في الاستمرار في دعم الفقاعات الأدبية، لأن الزمن دائما كان كفيلا بوضع النقاط على الحروف التي تتعرض لعوامل التعرية المزيفة.