ثقافة وفنون

ديمتري فالنتينوفيتش ميكولسكي: الاستشراق الروسي رديف للاستشراق الغربي

في حواره مع الجزيرة نت، انتقد المستشرق الروسي ديمتري فالنتينوفيتش ميكولسكي، تعامل السلطات البلشفية الروسية مع المستعربين الروس. ويقول صاحب كتاب “المسعودي هيرودوت العرب” إنه “بعد قيام الثورة البلشفية وترسيخ الدولة السوفياتية، صارت السلطات تضغط على المستعربين في سبيل جعلهم يقبلون العقيدة الماركسية اللينينية”. ويضيف أنه “نتيجة لذلك تعرّض عدد من هؤلاء المستعربين للتنكيل وزُجَّ بعضهم في السجون”.

وديمتري ميكولسكي من مواليد موسكو عام 1954م، ويُعدّ أحد أبرز الباحثين الروس في الثقافة العربية، وهو أستاذ بمعهد الاستشراق التطبيقي، وباحث بمعهد الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم الروسية، سليل تقاليد استشراقية عريقة، كرَّسها جيل عميد المستشرقين الروس “إغناطيوس كراتشكوفسكي”.

تخرَّج ميكولسكي في معهد بلدان آسيا وإفريقيا بجامعة موسكو عام 1978م، ويُعدّ أحد أبرز الباحثين الروس في الثقافة العربية، وله دراسات خاصّة في التراث العربي، ترجمَ العديد من كتب التراث الإسلامي إلى اللغة الروسية، وهو من أشدّ المفكرين دفاعاً عن الحضارة الإسلامية، ومهتمّ بأدق تفاصيلها.

يقول ميكولسكي: “صمّمت في قلبي على أن أكون مستعرباً، متخصّصاً في اللغة العربية وآدابها، وبحمد الله تحقّقت أحلامي”، ويشير إلى أن “اللغة العربية لها قيمة عظيمة بالنسبة إلى روسيا”، وأن الاستشراق الروسي “رديفٌ بدرجةٍ ما للاستشراق الغربي، لأنّ بدايات الدراسات الاستشراقية الروسية متأخرة نوعاً ما”.

وللبروفيسور ديمتري فالنتينوفيتش ميكولسكي اهتمامٌ خاصّ بتراث المفكر الجغرافي العربي “المسعودي”، الذي قضى سنواته الأخيرة في منطقة الفسطاط بمصر القديمة، وحصل ميكولسكي على درجة الدكتوراه من معهد الاستشراق في موسكو عام 2002م، وكانت أطروحته تحقيق كتاب المسعودي الشهير “مروج الذهب”، وصدرت الترجمة الروسية لهذا الكتاب عام 2014م، كما ترجم إلى الروسية بعض الأعمال المختارة من الأدب العربي الحديث، منها: “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني، و”عباد الشمس” لسحر خليفة، و”المتشائل” لإميل حبيبي، و”الحرب الأهلية في طاجكستان”، و”تاريخ الدولة العباسية”، وإلى الحوار.

ديمتري ميكولسكي من أشدّ المفكرين دفاعاً عن الحضارة الإسلامية ومهتم بأدق تفاصيلها (الجزيرة)
  • ما الذي جذبك إلى اللغة العربية وآدابها؟

في الحقيقة، القدر يحكمنا بصيرورة البقاء تحت حكمه، لذلك نجد أنّ الزمن يجبرنا أن نسير في طريق لم نكن نعلم بوجوده إلا بعد أن نصادف أحداً يفتح لنا ذلك الباب الموارب للفضاء الزماني والمكاني، فنتعرف من خلاله على عالم آخر بألوان غير التي نعلمها في بلادنا، وكان هذا العالم هو العالم العربي الذي تعرّفت عليه من خلال أدبه وشعره ومقدساته.

إن حوار الحضارات ليس إلا قدرنا المحكوم، فلا مهرب لنا منه إلا بالحوار، فوالدي كانت مهنتُه الهندسة المدنية، وفي عام 1968م، سافر مع والدتي إلى مصر من أجل إلقاء المحاضرات الخاصة بمهنته، فأُتيحت لي الفرصة لزيارتهما، وأيضاً كانت هناك أختي الصغرى التي تقيم معهما أثناء العطلة الصيفية، فأثناء إقامتي في مصر وقعت في حبّ الوطن العربي، وصممت في قلبي على أن أكون مستعرباً، متخصصاً في اللغة العربية وآدابها، وبحمد الله تحققت أحلامي فانضممت إلى الجامعة والحمد لله.

ديمتري ميكولسكي في مصر
ديمتري ميكولسكي: أثناء إقامتي في مصر وقعت في حبّ الوطن العربي، وصممت في قلبي على أن أكون مستعرباً (الجزيرة)
  • أنت كمستعرب ومطّلع على اللغة العربية ومؤلَّفات العرب، ما تقييمك لهذه اللغة وموقعها بين لغات العالم؟

لهذه اللغة قيمةً عظيمةً برأيي، أوّلا لأنها لغة الديانة الإسلامية العالمية والقرآن الكريم، وكما هو معروف القرآن كتابٌ مقدّس لدى المسلمين، وإلى جانب ذلك هو أثرٌ مجيد للغة العربية وآدابها. وثانياً هذه اللغة لا تربط بين العرب فقط، بل تربط أيضا بين جميع المسلمين. لذلك لهذين الجانبين للغة العربية أهميةٌ عظيمة، وقيمة تفرض نفسها بقوة بالنسبة إلى روسيا، لأنَّ الجزء الكبير من أهلها مسلمون، لذلك فهم يُقبلون على دراسة اللغة العربية، ومن هنا أصبحت مهمّةً في الأحقاب الأخيرة بالنسبة لنا، كما أنها كانت مهمّةً جدًّا أيام السلطة القيصرية، فأهميتها تنمو وتزداد.

“أنا مستعرب”

  • يصرّ الكثير من المستشرقين الروس -خاصة بعد إغناطيوس كراتشوفسكي (1883-1951م)- على إطلاق مصطلح “الاستعراب” على دراساتهم باعتبارهم جزءًا من الشرق لا ينفصل عنه تاريخيًّا أو دينيًّا أو تراثيًّا أو جغرافيًا.. ماذا تفضّل: مصطلح الاستعراب أم الاستشراق في الحالة الروسية؟

يجب القول بأنَّ هناك فرقا بين مصطلحيْ الاستشراق والاستعراب، فالاستشراق يخصّ الدراسات الشرقية بصفةٍ عامّة، مثل دراسة الثقافة الصينية، وتاريخ الصين، واليابان، والوطن العربي، وإيران وتركيا، والهند. أَمَّا الاستعراب بمعناه الضيق فيشمل الدراسات في مجال الثقافة العربية وتاريخ العرب والاقتصاد العربي وما إلى ذلك. فأنا مثلاً والحمد لله أتقن العربية وأبحث في مجال الثقافة العربية وتاريخ العرب، لذا أنا مستعرب.. إذاً، هناك فرق بين هذين المصطلحين.

بدايات الرحلة الروسية إلى الشرق

  • كما تعلم، الاستشراق الروسي بدأ في مرحلة لاحقة للاستشراق الغربي، حيث أوفدت روسيا عددا من الباحثين للدراسة في مدرسة اللغات الشرقية الحيّة في باريس، هل تأثر هؤلاء بأفكار نظرائهم الأوروبيين أو من يُسمّون “المركزيين الأوروبيين” تجاه الشرق، أم بقيت نظرة المستشرقين الروس محايدة نوعاً ما؟

نعم، أنت على حق، الاستشراق الروسي رديفٌ بدرجةٍ ما للاستشراق الغربي، لأنّ بدايات الدراسات الاستشراقية الروسية متأخرة نوعاً ما، ويمكن القول إنها بدأت في النصف الثاني من القرن 18م، وأخذت تتطور في النصف الأول من القرن 19م.

يوسف سينكوفسكي (Senkovskiy 1800-1858)
“يوسف سينكوفسكي” أوّل أستاذ من أبناء الإمبراطورية الروسية يتقن العربية (مواقع التواصل)

إنما بشكل عام، كنا نعتمد ليس على إيفاد الطلاب الشباب إلى الغرب وباريس مثلاً، إنما كنّا نعتمد على استدعاء الأساتذة الفرنسيين ثمّ الألمان لكي يُعلّموا طلبتَنا هنا في روسيا، فأوّل الأساتذة من أبناء الإمبراطورية الروسية كان يوسف سينكوفسكي (1800-1858م) وأصله من بولونيا (بولندا)، من الجزء البولوني المنضم إلى الإمبراطورية الروسية آنذاك، كان أوّل أستاذ من أبناء الإمبراطورية الروسية يتقن العربية وغيرها من اللغات الشرقية، فقد أُوفد إلى الشرق في رحلة شرقية لمدّة سنتين في البلاد العربية الشرقية المختلفة، وتحديداً إلى مصر وسوريا والأردن وإلى الأراضي المقدسة في فلسطين.

أَما المستعرب الروسي الوحيد الذي سافر للتعلّم في باريس فهو فلاديمير كيرغس، وهو شخصية بارزة جداً في الاستعراب الروسي، حيث درس في باريس على نفقته الخاصة، إذ بعد تخرّجه من الجامعة في منتصف القرن 19م، لم يجد وظيفة، لذا عَمِلَ مُؤدباً لأطفال أحد الأغنياء الروس، فسافر مع تلك الأسرة إلى باريس، وتعرَّف هناك على المستشرق الفرنسي الشهير روزنتال، الذي كان يدرّس في الكلية الفرنسية، حيث تعلّم على يديه.

وكان فلاديمير كيرغس صاحب أوّل قاموس عربي-روسي، وصاحب كتاب “مختارات المعلقات العربية” القيّم جداً، وله دور بارز في نشر الدراسات العربية في روسيا. طبعاً كنّا نقتدي بصورةٍ ما بالاستشراق الغربي، الفرنسي والألماني والإنجليزي أيضاً، ولكن سرعان ما تبَلورت لدينا المدرسة الاستشراقية والاستعرابية الروسية الخاصّة بنا، حيث كنّا موضوعيين، وكنا نحاول أن نبقى موضوعيين ومحايدين كما ذكرت في سؤالك.

قازان- سان بطرسبورغ.. الاتجاهات المختلفة

  • هل هناك اختلاف بالنسبة للقائمين على مدرستي الاستشراق في روسيا: قازان وبطرسبورغ تجاه الشرق؟

مبدئياً لا أعتقد أنّه كان هناك اختلاف جوهري في قازان وسان بطرسبورغ بموسكو، حيث تبلورت في موسكو عام 1819م مدرسةُ اللغات الشرقية الحيّة، ربما كانت تعتمد على التقاليد الفرنسية لتدريس اللغات الشرقية الحيّة، وكان لها طابع تطبيقي، وفي سان بطرسبورغ كانوا يميلون إلى الدراسات النظرية العميقة الأصيلة للشرق وللوطن العربي أيضاً.

أَما بالنسبة لقازان التي انطلقت بها الدراسات الشرقية عام 1807م، وكانت هذه المدرسة الواقعة في إقليم “تترستان” لديها إقبال على الشرق وثقافته، حيث أنجزت الكثير من البحوث ذات الصلة باللغة العربية والتاريخ الإسلامي.

مبدئياً، كانت قازان إلى جانب الدراسات العربية، وكان هناك أيضاً دراسات اللغات الهندية والديانة البوذية أيضاً، ودراسات تاريخ الصين وثقافتها، وحتى دراسات تاريخ اليابان وثقافتها.. ربما هناك اختلافات طبيعية جداً بخصوص الاتجاهات بين المدرستين بالنسبة للدراسات والأبحاث، إنما مبدئياً لا أعتقد أنّه كانت هناك اختلافات كبيرة بينهما.

من الخرافة إلى الحقيقة

  • هل عملية تبلور الأفكار العلمية في روسيا الموسكوفية، جرت على أساس التقاليد العلمية اليونانية والبيزنطية فحسب، أم كان هناك دورٌ بارز للتقاليد العلمية العربية في ذلك؟

صحيح، صراحةً في مرحلة المملكة الموسكوفية/الموسكوبية؟، كان هناك تأثيرات ضئيلة جداً للثقافة العربية على الثقافة الروسية، وكانت هناك انطباعات روسية ضئيلة جداً عن العالم العربي، ربما ما كان متوافراً هو معرفة بعض الخرافات لا أكثر، والانطباعات الضئيلة جداً للرحَّالة الروس المتدينين الذين كانوا يزورون الوطن العربي، كزيارة الأماكن المقدسة في فلسطين.. طبعاً أساس التعلّم كان عن طريق الأفكار والتقاليد البيزنطية اليونانية، أما العالم العربي فقد انفتح أمامنا بصورة كبيرة ابتداءً من أيام بطرس الأكبر في بداية القرن 18م، ثم في أيام حكم الإمبراطورة كاترينا الثانية، ومن ثم في القرن 19م في أيام الإمبراطور نيكولاي الأول.

الإمبراطور "نيكولاي الأول"
الإمبراطور “نيكولاي الأول” (مواقع التواصل)

بوابات الاستشراق الروسي

  • انتشرت في روسيا خلال القرن 16م كتابات مناهضة للعرب والإسلام بالتزامن مع اهتمام المستشرقين الروس بالعالم العربي والإسلامي، بماذا تفسرون ذلك؟

الظواهر الثقافية التي ذكرتها تعود إلى القرن 16م، ففي عهد إيفان الرهيب (1530-1584م)، لم يكن لدى العلماء الدينيين في روسيا علم وضعي إنْ صح التعبير، حيث لم يكن لديهم اهتمامات عربية وإسلامية، إنما كانت المعارف والمؤلفات البيزنطية منتشرة بين العلماء الروس. وبسبب أنَّ المعارف الروسية آنذاك كانت ضعيفة، كنّا نعتمد في سبيل الترجمة الدبلوماسية من العربية إلى الروسية على أبناء التتار الذين كانوا يعملون لخدمة الدولة الموسكوبية.

ومع مطلع القرن 19م ومنتصفه، بدأت تزداد اهتمامات العلماء الروس بالإسلام والثقافة العربية والثقافة الشرقية بشكلٍ عام، سواء في مدرسة الاستشراق في قازان أو في سان بطرسبورغ. وكان هناك بين الذين يكتبون عن الإسلاميات في روسيا خلال القرن 19م أناسٌ جهلة، إنما الأكثرية كانوا علماء حقيقيين ومحايدين، أمثال: بيتر بوستنيكوف (1666-1703)؟، وهو أوّل مترجم لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الروسية، وبطريقة أدبية أنيقة جداً، ولكن من الترجمة الفرنسية. وبرأيي، الظواهر التي ذكرتها لم تكن مسيطرة أو جوهرية في خطاب التيار الفكري للمستشرقين الروس تجاه الإسلام والثقافة العربية بشكل واسع آنذاك.

آثار ومخطوطات عربية

  • هل كان للمستشرقين الروس دورٌ كبير في دراسة التراث العربي وتحليله ونشره وتوصيله، برأيكم ما هي الملامح المميزة لهذا الدور؟

طبعاً كان هناك للعلماء السابقين والمعاصرين الروس دورٌ في دراسة التراث العربي، فمثلاً في سان بطرسبورغ، كان علماء المدرسة الخاصّة بعلم الاستعراب هناك، يعتمدون على مجموعة من المخطوطات الغنية المتوفرة في معهد المخطوطات الشرقية الحالية -وكان اسمه سابقا المتحف الآسيوي- وعلى مجموعة المخطوطات في جامعة سان بطرسبورغ وبالأخص في الكلية الشرقية.. يعني كان لهم دورٌ في ترجمة ودراسة بعض الآثار العربية، مثلاً هناك ترجمة لكتاب “الخراج” للفقيه الإسلامي الشهير والمعاصر لهارون الرشيد، أبي يوسف إبراهيم الكوفي (731-798م)، وقد أنجز تلك الترجمة الأستاذ شميت، وهناك ترجمات لعدّة آثار عربية قام بها المستشرق الشهير براتشكوفسكي، وأيضاً الأكاديمي كريمسكي، وهو من أبناء المدرسة الموسكوفية للدراسات الشرقية، وتلك التقاليد ما زالت حيّةً.

وفي سان بطرسبورغ تبلورت في الحقب الأخيرة أيضاً مدرسةٌ لدراسة التراث اليمني والتراث الحميري، وحالياً هناك عدد من العلماء والأساتذة يركزون اهتمامهم على الدراسات المملوكية، من خلال الاطلاع على المخطوطات المملوكية المتوفرة في سان بطرسبورغ. وأنا بكلِّ تواضع كانت اهتماماتي بالمؤرخ والجغرافي العراقي أبو الحسن المسعودي (896-956م).

يمثل هذا الكتاب للمستشرق ديمتري ميكولسكي شاهداً ليس على حياة المسعودي فقط، بل وعلى جهود أولئك الذين جعلوا تراثه في متناول العالم كله
هذا الكتاب للمستشرق ديمتري ميكولسكي يمثل شاهداً ليس على حياة المسعودي فقط، بل وعلى جهود أولئك الذين جعلوا تراثه في متناول العالم كله (الجزيرة)

“ألف ليلة وليلة” الشعبية الواسعة

  • تجاوزت اهتمامات الأدباء والفنانين الروس بالتراث العربي حدود الاستقبال والانتشار إلى التأثر، فما هو الشكل الذي أخذه هذا التأثر؟

يجب القول إنّ اهتمام الأدباء الروس الروّاد بالتراث العربي الأدبي والفني كان من خلال يوسف سينكوفسكي (1800-1858م)، الذي كان أستاذاً للغة العربية وغيرها من اللغات الشرقية، فكان أديباً وناشراً ومحرّراً، واعتماداً على تقاليد كتاب “ألف ليلة وليلة”، كتبَ قصة طويلة عنوانها “عنترة”، وله عددٌ آخر من الكتب بما يمكن تسميته بالقصص الطويلة الشرقية المستلهمة من التراث العربي، فتأثر بكتاباته الفنان والملحن الموسيقار الروسي الشهير نيكولاي ريمسكي كورساكوف (1844-1904م) الذي كتب ملحمة موسيقية اسمها “عنترة”، وله سيمفونية أو ملحمة عنوانها “ألف ليلة وليلة” فيها عدة أجزاء، مثل: الأمير والأميرة، وبغداد والصيد والقنص، فهي ملحمة موسيقية شهيرة ورائعة وممتعة للغاية، وتُعزف وتُذاع بكثرة في المحطات الإذاعية الروسية والغربية والعالمية.

يمكن القول إنَّ كتاب “ألف ليلة وليلة” الشهير تُرجم للمرة الأولى إلى اللغة الروسية خلال القرن 18م؟؟، حيث ترجمه المستشرق الفرنسي أنطوان غالان عام 1704، عن اللغة الفرنسية، ومن المعروف أنَّ هذا الكتاب كان يتمتع بشعبية واسعة، وكانت تُنشر فصول منه، وكانت تُقرأ ليس في المقاهي فقط، إنما في الحوانيت التي كانت تٌقدِّم الشاي للتجار والبسطاء من الناس، فكانوا يستمتعون بها، فأوّل ترجمة لكتاب “ألف ليلة وليلة” تحققت في عشرينيات القرن 20م؟؟. وعليه فقد كان هناك تأثير واضح للأدب والثقافة العربية على الثقافة الروسية.

“سهام المسعودي.. أصابت قلبي وعيني”

  • تتقصى في كتاب “المسعودي هيرودوت العرب”، الظروف الاجتماعية والثقافية والعائلية التي تشكّلت فيها شخصية المسعودي بتفاصيل دقيقة، فما سرّ اهتمامك بتراثه؟

في الحقيقة، بدأ اهتمامي بالوطن العربي والثقافة العربية وأنا طالبٌ في أواخر المرحلة الثانوية، قُبيل التخرج منها من أجل الالتحاق بالجامعة، وفي معهد بلدان آسيا وإفريقيا بجامعة موسكو، قرأت بعض الكتب عن تاريخ العرب وثقافتهم، فكان من المؤرخين العرب أولاً، المؤرخ والفقيه الطبري (839-923م)، والمؤرخ المسعودي (896-956م) ثانياً.

وهكذا أصبح اسم المسعودي معروفاً بالنسبة لي في تلك الفترة، وفي الجامعة تعرفت بحمد الله على الأستاذ مكسيم، الذي كان ملمّاً باللغة العربية الفصحى وكان يعرف مختلف النصوص العربية الكلاسيكية شعراً ونثراً، وركّز اهتمامه على أشعار أبي الطيب المتنبي (915-965م)، من خلال ترجمة قصة حياته، وكان يشرح لنا مختارات من المؤلّفات العربية من أشعار العرب ونثرهم وتاريخهم.

ومن بين النصوص التي قرأناها وفسرناها وبحثنا فيها من خلال المحاضرات، كانت مقتطفات من “مُرُوج الذهب ومَعادن الجَوْهَر” للمسعودي. فحقيقةً أُعجبت بها وسهمُها أصاب قلبي وعيني، وأصبحت متيّماً بمؤلفات المسعودي، وفيما بعد أُتيحت لي فرصة السفر إلى ليبيا عام 1976م لمدة وجيزة، فاشتريت هناك نسخة من “مروج الذهب”، وعند عودتي تعمقت في دراستها ووقعت في حبّ مؤلفات المسعودي، وكرّست حياتي لدراسته.

  • وكيف ترى خصوصية المسعودي بين المؤرخين العرب؟

كان المسعودي بالدرجة الأولى أديباً يهتم بتقديم القصص الرائعة والمثيرة والظريفة، تنفتح فيها شخصيات الأبطال، أبطال التاريخ العربي الإسلامي من الخلفاء إلى الناس البسطاء من بين أهل المدن والقرى، وخاصة البدو، وكذلك العلماء، إنه فعلاً مؤرخ وأديب رائع.

التراث العربي والسيوف الأندلسية

  • من خلال عملك كباحث في الثقافة العربية يعرفُ جذورَها وامتداداتِها، ويمكن أن ينظر إليها من زاويةٍ خارجية غير محكومة بمواقف مسبقة، كيف ترى التحولات المختلفة التي مرت بها هذه الثقافة، صعوداً وهبوطاً؟

كما هو معروف أنَّ الثقافة العربية جزء من الثقافة العالمية وذات مغزى وتأثير، وتتمتع بالشمولية الثقافية كمكتبة عالمية، طبعاً تأثرت واستلهمت من مختلف الثقافات السابقة لها، من الحميرية والإيرانية واليونانية والبابلية والمصرية (القبطية)، فكان هناك تأثيرات كثيرة عليها.

وفي فترة نضوجها صارت تؤثر في الثقافات العالمية الأخرى كالفارسية الجديدة والتركية وثقافات شعوب آسيا الوسطى، طبعاً كان هناك تأثير كبير جداً في الثقافة الأوروبية، فمن المعروف أنّ الأوروبيين الغربيين خاصةً تعرّفوا على التراث اليوناني على أيدي العرب، ولولا العرب لما تعرّف الأوروبيون على العلماء اليونانيين أمثال أفلاطون وبطليموس.

لذا يمكن القول إنَّ الثقافة العربية بلغت ذروتَها في القرون الوسطى في العهد الكلاسيكي، ولولا الغزو المغولي للشرق (1219-1256م)، ربما كانت وصلت الثقافة العربية إلى قمم أعلى، إنما شاءت الأقدار أنّ المغول دمّروا بغداد (1258م)، والكثير من المراكز الثقافية العربية في الشرق.

ما أقصده أنَّ مراكز الثقافة العربية انتقلت إلى مصر وتحديداً القاهرة، وإلى المغرب، وبعد فترة سقطت الحضارة الأندلسية (1492م) أمام ضربات السيوف الإسبانية، ولكن الأثر العربي الأندلسي لا يزال باقيا في الثقافة الإسبانية الحالية.

فالإسبان يعتزّون بتراثهم العربي الأندلسي، ومع محمد علي باشا (1769-1849م) في مصر ابتدأت النهضة العربية من جديد، وأدت في نهاية المطاف إلى ظهور النوادي الأدبية والمجلات والصحف وفتحت المجال للكتّاب والأدباء البارزين أن يبدعوا أكثر، وبذلك أصبحت الثقافة العربية معاصرة، مع المحافظة على تقاليدها الأصيلة، وتتماشى مع مسار الثقافات العالمية الحالية.

  • إن اهتمام الإمبراطور بطرس الأوّل والإمبراطورة كاتيرينا الثانية (لم أجدها بهذا الشكل، وإنما: كاترينا، كاثرينا، كاترين، كاثرين، يكاترينا والأخير في موسوعة الجزيرة)، بموضوع الترجمة من العربية إلى الروسية، هل يندرج ضمن أهداف سياسية تجاه العالم العربي والإسلامي؟

بالنسبة للإمبراطور بطرس الأول (1672-1725م)، ووريثته الإمبراطورة كاتيرينا الثانية (1729-1796)، كانوا من رجالات الحكم وحريم السياسة إنْ صح التعبير، طبعاً بالنسبة لبطرس الأكبر كان مهتماً بالأغراض السياسية، لذا تحققت بأمره ترجمة معاني القرآن الكريم ليس من اللغة العربية إنما عن اللغة الفرنسية، حيث كانت هناك علاقات سلمية بين روسيا القيصرية مع البلدان الإسلامية.

كما كانت هناك حروب ولا سيما مع الإمبراطورية العثمانية، لذا كان يريد لأبناء دولته أن يكونوا على معرفة بالقانون الإسلامي أو الشريعة الإسلامية الواردة في القرآن الكريم، لذا أخذ أتباعُه ومعاصروه بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الروسية في سان بطرسبورغ، ونشرت تلك الترجمة عام 1716م، والذي أنجزها هو بطرس بوسنيكوف عن نسخة فرنسية وضعها عام 1674م، الفرنسي أندريه دي ريير، المتوفى عام 1672م.

أما الإمبراطورة كاتيرينا الثانية فكانت مهتمة جداً بتنظيم حياة رعاياها من المسلمين بالطريقة السليمة المقبولة بالنسبة لهم، ومن جملة الخطوات التي قامت بها في برنامجها الدعائي، أنْ أمرت بإعادة طبع القرآن الكريم، وتوزيعه بكميات كبيرة بين مسلمي روسيا القيصرية في آسيا الوسطى. وتمت طباعته باللغة العربية الأصلية في سان بطرسبورغ، إذ قامت دار النشر بتأمين الأحرف العربية من أجل الطباعة، وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ جداً في أوساط المستعربين.

الإمبراطورة كاثرين الثانية؟
الإمبراطورة كاثرين الثانية كانت مهتمة جداً بتنظيم حياة رعاياها من المسلمين بالطريقة السليمة المقبولة بالنسبة لهم (مواقع التواصل)

تجربة عريقة

  • عودة إلى موضوع الترجمة من الروسية إلى العربية، تقولون إن العرب يتفوقون على الروس في هذا المجال، ماذا تقصدون بذلك؟

يجب الاعتراف بأن العرب من الشعوب القادرة على التعلّم، ففي بدايات الخلافة العباسية (750-1517م)، وربما قبل ذلك أيضاً، كانوا يُترجمون كثيراً عن اللغة اليونانية والسريانية والفارسية، من مؤلَّفات التاريخ والعلوم الدقيقة، وكان ذلك عهداً مزدهراً للترجمات العظيمة، وفي أوائل القرن 19م، عندما واجه الوطن العربي تحدّياتٍ جديدةً من خلال مواجهة الغرب وقواته العسكرية، دفع ذلك العربَ إلى ترجمة المزيد من اللغات الغربية (الفرنسية والإنجليزية والألمانية)، ثم في النصف الثاني من القرن 19م، بدؤوا يترجمون عن اللغة الروسية الآثار الأدبية والآثار الفنية التقنية، إذاً فالعرب لهم تجربة عريقة جداً في فن الترجمة.

إضافة إلى ذلك، لدى العرب قدرة عجيبة جداً على إتقان اللغات الأجنبية في العالم بأسره، مثلاً العرب في تونس والجزائر وموريتانيا والمغرب الذين كانوا خاضعين للاستعمار الفرنسي، كانوا يلمّون باللغة الفرنسية بصورة رائعة، فبعضهم صاروا أدباءَ مشهورين يكتبون باللغة الفرنسية، وهناك من أبناء العرب الذين سافروا إلى ألمانيا مثلاً أتقنوا الألمانية وبعضهم صار يكتب باللغة الألمانية، مثل الكاتب السوري رفيق الشامي، وهو كاتب مهم باللغة الألمانية.

  • برأيكم هل تَوجُّه قاطرة المعرفة الروسية تجاه الشرق كان لأهداف سياسية محضة؟

نعم، كانت تخدم الأغراض السياسية طبعاً، كما أنها كانت تخدم الأغراض الثقافية العالمية المحضة، فمن المعروف أنّ الدبلوماسيين الروس الذين كانوا يخدمون في الشرق كانوا يشترون المخطوطات العربية وينقلونها إلى المتحف الآسيوي، وكان في وزارة الخارجية الروسية مكتبة أو خزانة خاصة بالمخطوطات الشرقية بما فيها المخطوطات العربية.

ومن هؤلاء المستشرقين فيتالي نعومكين، الذي يُعدّ شخصية فريدة، أسهم بدور سياسي كبير في خدمة السياسة الخارجية الروسية تجاه العالم العربي، وله اهتمامات علمية وأكاديمية مختلفة وواسعة، فقد كتبَ عدداً من الأبحاث الخاصة بالتصوف والفلسفة العربية الإسلامية، وترجم “إحياء علوم الدين” للغزالي، وما زال فيتالي نعومكين مرشداً علمياً لمعهد الاستشراق، وهو شخصية إيجابية من كل النواحي.

  • طالما نتحدث عن المستشرقين أو المستعربين الروس، بماذا تُعلق على تولي المستشرق الراحل يفغيني بريماكوف مناصب في الدوائر الاستخباراتية والسياسية الروسية؟

هذا واضح وضوح الشمس، فبريماكوف (1929-2015م ومولود في كييف بأوكرانيا)، كان مرتبطا بالدوائر السياسية، فبعد تخرّجه من معهد الدراسات الشرقية بجامعة موسكو، عَمِلَ رئيساً للقسم العربي في الإذاعة الروسية، ثم انتقل إلى جريدة “البرافدا” الروسية، وهي لسان حال الحزب الشيوعي الروسي، وبصفته مراسلاً للجريدة سافر إلى الشرق العربي: لبنان ومصر وسوريا، حيث استمرت إقامته هناك لسنوات، ومن ثم عُهِدَ إليه في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي تَولي منصب مدير المخابرات الخارجية الروسية (أس في آر)، كما تولى منصب رئيس الوزراء عام 1998م، لقد كان رجل دولة أكثر من كونه شخصية أكاديمية.

الموسوعة - MOSCOW, RUSSIA - JUNE 12 Former Prime Minister Yevgeny Primakov are seen during the State Awards Ceremony during celebration of the Day of Russia at the Grand Kremlin Palace on June 12, 2014 in Moscow, Russia. (Photo by Sasha Mordovets/Getty Images)
المستشرق الراحل يفغيني بريماكوف (غيتي)
  • هناك من يرى أن مظاهر الاحتكاك الحضاري بين العرب والروس تمثّلت في الميول التوسعيّة لكلتا الحضارتين على حساب الأخرى بحكم الجوار الجغرافي، كما لعبَ البعد الديني -دعويًّا أو تنصيرياً- موجّهًا لتلك العلاقات وصابغًا لها. وشهدت العلاقات توترًا كبيرًا في مراحل تاريخية ومعاصرة كثيرة.. هل هناك جانب تنافسي بينهما على مدار التاريخ؟

لا أعتقد ذلك، الحمد لله، التنافس غير موجود في رأيي، إنما هناك تبادل دائم بيننا، وإذا كان أبناء الأمة العربية يعملون على ترجمة مؤلفات لبعض الكتّاب الروس، فنحن أيضاً نترجم آثار العرب ومؤلفات بعض الكتّاب العرب، فلا تنافس بيننا.

  • بماذا تمثلت استفادة العرب من الاستشراق الروسي؟

في الحقيقة سؤالك صعبٌ بالنسبة لي، أنتم أدرى مني بذلك، ولكني سمعت من زملائي العرب أن موقف الاستشراق الروسي يختلف عن موقف الاستشراق الغربي تجاه العرب والثقافة العربية، فهو أكثر قبولاً وملاءمةً بالنسبة للعرب والثقافة العربية.

  • أين موقع الاستشراق الروسي اليوم بالنسبة للعالم العربي والإسلامي؟ وما دور المستشرقين الروس؟

موقفنا كمستشرقين أو مستعربين هو موقف الإعجاب أولاً، وموقف التحليل والدراسة ثانيا، وأمامنا بطبيعة الحال مهمة مزدوجة أوّل جوانبها تعريفُ القارئ الروسي بمآثر الثقافة العربية الحالية والكلاسيكية. أما الجانب الثاني فيتمثل في تعريف الإخوة العرب بمآثر الثقافة الروسية، بما فيها مآثر الاستشراق الروسي، ولي الشرف أن أكون جزءاً من هذه المهمة التي استطعت أن أقدم شيئاً إيجابياً في هذا المجال والحمد لله.

نشر الثقافة العربية

  • ما الدور الذي لعبه بعض العلماء العرب الذين استقدمتهم مدرسة الاستشراق الروسية إلى موسكو منذ القرن 19م في نشر الثقافة العربية؟

نعم، بدأ هؤلاء عملهم في المؤسسات التعليمية الروسية العليا، ومنهم الشيخ المصري محمد عيّاد الطنطاوي، حيث كان محاضراً في الكلية الشرقية لتلك الجامعة في القرن 19م، وأسهم كثيراً في نشر اللغة العربية في روسيا. كما كان للشيخ الطنطاوي (1810-1861م)، دور هام في إعداد وتأهيل أجيال من المترجمين الروس الشبان الذين نقلوا مئات الأعمال من العربية إلى الروسية.

لذا كان الطنطاوي مساهماً رئيسياً في حركة الترجمة إلى اللغة الروسية، كما ترجم كتاب “تاريخ روسيا المختصر” لأوسترالوف، وأعد قاموسا ثنائي اللغة “عربي-فرنسي” (أم عربي-روسي؟؟) طُبع في قازان عام 1849م، وترجمَ الباب الأول من كتاب “كلستان” أو “روضة الورد” لسعدي الشيرازي.

ومن هؤلاء أيضا أحمد حسين المكي، من مكة المكرمة، الذي عمل في مدرسة الاستشراق في قازان، وقد ساهم هؤلاء وزملاؤهم من العرب في تعليم اللغة العربية في الجامعات الروسية بشكل دقيق جداً.

blogs محمد الطنطاوي
الطنطاوي كان مساهماً رئيسياً في حركة الترجمة إلى اللغة الروسية (مواقع التواصل)

الثورة البلشفية.. كاتم الصوت

  • برأيكم هل حاول بعض الساسة الروس إخضاع الاستعراب الروسي للتوجهات السياسية والأيديولوجية، وذلك من خلال ربط الاستشراق بالماركسية؟ فكما تعلم أن السلطات الستالينية زجّت عددا من المستشرقين في السجون، والمثال على ذلك محاربة المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي الذي تعرض لضغوط هائلة حتى توفي.. بماذا تعلق؟

يجب القول إنَّ علم الاستعراب هو علم كلاسيكي محايد، فهو يعتمد على دراسة الحقائق والمخطوطات والوقائع الحقيقية، وربما بعيدا عن أية تدخلات أيديولوجية وعقائدية، إنما بعد قيام الثورة البلشفية وترسيخ الدولة السوفياتية، صارت السلطات البلشفية تضغط على المستعربين في سبيل جعلهم يُقبِلون على العقيدة الماركسية اللينينية.

طبعاً كان هناك عدد من المستعربين يدرسون المخطوطات ويتعمقون في التاريخ والثقافة العربية، فكان ذلك يثير الشكوك لدى السلطة السوفياتية بأن هؤلاء مناهضون للثورة آنذاك، فنتيجة لذلك تعرض عدد من هؤلاء المستعربين للتنكيل وزُجَّ بعضهم في السجون، وكان منهم أناتولي جينكو (1896-1941م)، الذي كان مستعرباً وعالما باللغات القوقازية، حيث تمَّ إلقاء القبض عليه بتهمة تعاطفه مع الجيش الألماني، فمات داخل السجن في أوائل الحرب الوطنية العظمى، في صيف العام 1941م.

أما إغناطيوس كراتشكوفسكي فلم يتعرض للتنكيل، إنما تعرض لضغوط نفسية وسياسية هائلة، ولاتهامات بمناهضة الثورة البلشفية، وكانت السلطات الروسية توجه له الشتائم، كل ذلك أدى إلى وفاته مبكراً رحمه الله، فلا نقول إلا: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

  • كيف تغيّر المشهد بعد جيل المستشرقين الكلاسيكيين الروس الكبار؟

طبعاً مع مرور الزمن، يتغير اللاعبون على مسرح الاستشراق الروسي، ولكن المسرح لن يتغير، فنحن ورثة هؤلاء الجبابرة والعمالقة الكلاسيكيين، فما زلنا نعمل اعتماداً على ما قدموه وتركوه لنا من منجزات ثقافية مهمّة، فإن شاء الله سنعمل ونسير في هذا المنهج.

عروة الاستعراب

  • ولكن هناك من يقول: نجد في معهد الدراسات الشرقية تشجيع الروس -بمن فيهم اليهود- على دراسة الاستعراب، بحيث أصبحت نسبة المستعربين الروس كبيرة على حساب المستعربين المسلمين، وهذا ليس بصدفة.. كيف تُعلّق؟

صراحة يجب القول إنَّ علم الاستعراب شأنه شأن علم الاستشراق، فهو بصفة عامة علمٌ وضعي، وليس علما دينيا، فقد نشأ في أوروبا الغربية ووصل بعد ذلك إلى روسيا، فمثلاً أيام القياصرة كان هناك مستعربون روس وألمان من رعايا الإمبراطورية الروسية، وحتى من اليهود.

المستعرب اليهودي الروسي "إبراهيم هرقاوي" ألف كتاباً عظيماً في منتصف القرن 19م، عنوانه "اقاصيص الكتاب والادباء العرب في الصقالبة والروس"، يشمل هذا الكتاب ترجمة مقتطفات لعدد من المؤلفين العرب
المستعرب اليهودي الروسي إبراهيم هرقاوي ألف كتاباً عظيماً في منتصف القرن 19م، عنوانه “أقاصيص الكتّاب والأدباء العرب في الصقالبة والروس”، يشمل هذا الكتاب ترجمة مقتطفات لعدد من المؤلفين العرب (مواقع التواصل)

مثلاً كان هناك مستعرب يهودي روسي يدعى إبراهيم هرقاوي (1839-1919م)، وقد ألف كتاباً عظيماً في منتصف القرن 19م، عنوانه “أقاصيص الكتّاب والأدباء العرب في الصقالبة والروس”، ويشمل هذا الكتاب ترجمة مقتطفات لعدد من المؤلفين العرب، بمن فيهم المؤرخ المسعودي الذي له منزلة خاصة في نفسي، وتمّ تكريس تلك المقتطفات لأحوال الصقالبة والروس في قديم الزمان، خلال القرنين 9 و10م، والتي شاهدها ووصفها الرحَّالة العرب في رحلاتهم.

وهذا يعني أن علم الاستعراب يشمل الجميع، وكان من بين المستعربين الروس من الأصول الإسلامية المستعرب أنس خاليدوف، وهو مستعرب عظيم جداً، كان في سان بطرسبورغ، وكتب عدداً من المؤلفات والأبحاث الرائعة في تاريخ العرب وثقافتهم، مثلاً له كتاب رائع جداً في ثقافة المخطوطات وتطورها وتناقلها بين الأهالي في العهد العربي الإسلامي.

وكانت هناك أسرة كاملة من المستعربين في داغستان، وهي جمهورية جبلية في إطار روسيا الفيدرالية، وكلهم من أصول إسلامية، وقد تركزت أبحاثهم في المخطوطات العربية والداغستانية، والمخطوطات التي كتبت بالعربية في داغستان، لذلك يشكلّ علم الاستعراب العروة التي تربط المستعربين جميعاً في روسيا الفيدرالية.

تجسيد واقعية الشرق

  • لم يكن الاستشراق الغربي مقتصراً على الباحثين والكتاب، فهناك عدد كبير من الفنانين الغربيين من أجيال مختلفة، رسموا لوحاتٍ مثيرةً عن الشرق الواقعي والشرق المُتخيل، وأتصور أنّ للفنانين الروس تجربة مختلفة في استلهام المشاهد الشرقية في لوحاتهم، فما خصوصية هذه التجربة؟

بالنسبة للفنانين الروس فلهم تجربة ربما أقل، لأنّه لم تكن لنا صلات واسعة مع العالم العربي عبر البحر الأبيض المتوسط، ولكن بعض الرسامين الروس سافروا إلى البلدان العربية، ومنهم الرسّام الشهير فاسيلي بولينوف (1844-1927م)، الذي توفي في عشرينيات القرن 20م، والذي قام برحلة طويلة الأمد إلى بلاد الشام وتحديداً إلى فلسطين، فكان مهتماً بحياة المسيح عليه السلام وحياة أتباعه من الروس وغيرهم، وكان يعتقد أنّ المحيط اليومي لهؤلاء كان قريباً جداً من المحيط والبيئة الاجتماعية والجغرافية والطبيعية التي كان يعيشها آنذاك الشعب العربي الفلسطيني. لذا رسم عددا من اللوحات المكرّسة للنبي عيسى، فهو يصوّر في تلك اللوحات أحوال الشعب الفلسطيني في أواخر القرن 19م.

ومن بين الرسامين الروس المهتمين بالشرق، الرسام فيريشاغين (1842-1904م)، الذي سافر عبر آسيا الوسطى ثم إلى الهند مروراً بإيران، وترك عدداً كبيراً من اللوحات المصورة للحياة اليومية للمسلمين في تلك البقاع.

وبعد قيام الثورة البلشفية عام 1917م، غادر البلاد قرابة 3 ملايين روسي بينهم مثقفون، وهاجروا إلى بلدان العالم من فرنسا إلى أميركا اللاتينية، وبعضهم أقاموا في الجزائر والمغرب وتونس ومصر، وكان منهم رسّامون.

من الرسّامين الذين أقاموا في مصر النحات والرسام الروسي إيليا ريبين (1844-1930م)، الذي رسم عددا من اللوحات التي تجسد الحياة اليومية للمصريين في تلك الفترة.

الرسّامة ناتاليا جونشاروفا (1881-1962م)
الرسّامة ناتاليا جونشاروفا (1881-1962م) (مواقع التواصل)

وفي ثلاثينيات القرن 20م، سافر بعض رسّامي الهجرة من فرنسا إلى بلدان المغرب العربي، من أجل الاطلاع على التجربة الفنية الجديدة. ومنهم الرسّامة ناتاليا جونشاروفا (1881-1962م)، التي رسمت عدة لوحات تصور الحياة اليومية في المنطقة. طبعاً تجربة الفنانين الروس في تصوير جمال الوطن العربي أقل من تجربة الرسامين الغربيين، ولكن مع ذلك لم يكن الفنانون الروس غائبين عن سحر الشرق الذين جسّدوه بواقعية.

 

دولة ملحدة

  • هناك من يقول إن فكرة محاربة الأديان كانت هي السائدة في الاتحاد السوفياتي السابق. وفي عهد الرئيس فلاديمير بوتين، كان هناك اهتمام روسي بالعالم الإسلامي، ورغم ذلك كانت هناك مضايقات للمسلمين ومنع لبناء المساجد، وهو ما يعدّه المسلمون الروس نوعاً من التضييق على الحرّيات الدينية.. بماذا تعلق؟

أولاً، فعلاً الدولة السوفياتية بصفةٍ عامة كانت دولةً ملحدة صراحةً، وكانت مُحارِبة للأديان، فالمؤمنون بالله من الموظفين في الجهات الحكومية، كانوا يمارسون عباداتِهم سرًّا لأنَّ السلطات الروسية كانت تلاحقهم آنذاك، وإذا كشفت توجهاتهم الدينية فسيُفصلون من وظائفهم.
فالدولة السوفياتية كانت تقريباً ضدّ كل الأديان، ما عدا الديانة اليهودية التي كانت لها مكانة خاصة لدى الجهات الحكومية، أما الإسلام والأرثوذكسية والبروتستانتية والبوذية، فكانت تضيّق الخناق على أتباع تلك الديانات وتمارس الرقابة الصارمة عليهم.

أما في العهد الجديد بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي (1989م)، فالتعامل مع الأديان تعامل إيجابي، وبدأ ذلك أيام الرئيس ميخائيل غورباتشوف (1931-2022م)، حيث أصبحت الأوضاع بالنسبة للمؤمنين أسهل نوعاً ما، وفي أيام الرئيس بوريس يلتسين (1931-2007م)، وفلاديمير بوتين، لم يكن هناك تضييق على الحريات الدينية. وبالنسبة للمسلمين، نرى أنه قد شُيد في العاصمة موسكو عدة مساجد جديدة لأداء عباداتهم. ومع ذلك، وبصراحة، قد تحدث هنا وهناك حالات لتضييق الحريات الدينية بشكل عام، لكن بالنسبة للنهج الجوهري للدولة، لا أعتقد أنّ هناك أي محاولات متعمدة للتنكيل بالمسلمين بسبب اعتقادهم الديني.

  • هل يندرج تحت تأثير الدعاية السياسية والمصالح؛ إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على السماح مؤخراً بإعادة نشر واستنساخ كتاب “صحيح البخاري” في روسيا، بعد منعه بمرسوم روسي سابق؟

بصراحة، لستُ على اطلاع بشأن التضييق على نشر كتاب “صحيح البخاري” فهو كتاب ديني محض، ومحتواه لا يعارض أيّ منظومة سياسية، ربما هناك شيء من سوء الفهم لماهية هذا الكتاب العظيم.

إبادة جماعية للثقافة والبشر

  • باعتباركم شخصية أكاديمية روسية مرموقة، ولكم حضور في العالم العربي، برأيكم هل ما يجري في غزة من تدمير وقتل للمدنيين الفلسطينيين يُشكل إبادة جماعية للبشر وللتراث؟

إن ما يجري في غزة هو بطبيعة الحال إبادة جماعية للبشر، وإبادة للثقافة العربية الإسلامية والفلسطينية، مثلاً في مدينة خان يونس المعروفة يوجد بها خان بُنيَ في القرن 14م أيام المماليك، وقد دمره الجيش الإسرائيلي، ذلك يشكل إبادة ثقافية للتراث الفلسطيني، ولكنّ السهم سيرتدّ على مطلقه وسيصيبه في مقتل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى