ترامب لن يدمر النظام العالمي.. لأنه ميت بالفعل!
مقدمة الترجمة:
يناقش أستاذا العلوم السياسية والحكومة ألكسندر كولي ودانييل نيكسون في مقال لهما على فورين أفيرز الفرضية القائلة إن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية مجددا يمكن أن يُمثِّل ضربة قاصمة لما يُعرف بـ”النظام الدولي الليبرالي”، في ظل ازدراء ترامب للمؤسسات والهيئات الرئيسية التي شيَّدتها واشنطن للحفاظ على هذا النظام والتربع على عرشه، مثل حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، والأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية.
ويرى الكاتبان أن هذا النظام يتعرض لتهديد كبير بالفعل حتى قبل صعود ترامب، لكن السياسات القومية للرئيس المنتخب وفريقه تهدد بتقويض هذا النظام بلا رجعة.
اقرأ أيضا
list of 2 items
الصين وأميركا في 2025 والصراع الذي قد يغير شكل العالم
الفيلسوف إيمانويل تود الذي يتنبأ بهزيمة الغرب كما تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي
end of list
والنتيجة المترتبة على ذلك من وجهة نظر الكاتبين لن تكون أن أميركا ستصبح أكثر قوة كما يأمل ترامب، ولكنها ستفقد تفوقها، بل وربما يتعرض أمنها القومي للخطر، نتيجة تخلّيها عن المقومات التي أسست للهيمنة الأميركية على مدار أكثر من 50 عاما.
نص الترجمة:
خلال حملته للانتخابات الرئاسية، وعد دونالد ترامب بتبنّي سياسة خارجية قومية تقوم على مبدأ “أميركا أولا”. وتباهى ترامب بتهديده خلال ولايته الأولى بالتخلي عن حلفاء أميركا في الناتو، وأكد أنه ينوي -خلال ولايته الثانية- السماح للروس “بفعل ما يريدون” حال فشل أعضاء الناتو الأوروبيون في زيادة إنفاقهم الدفاعي.
إعلان
وقد أدت ترشيحات ترامب وتعييناته البارزة إلى زيادة نفوذ الموالين لـ”ماغا” (وهو اختصار لشعار حملة ترامب “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”)* من المناهضين للعولمة و”النظام الدولي الليبرالي”.
وسوف تضم إدارة ترامب عددا كبيرا من المساهمين في قائمة الأمنيات السياسية التي أصدرتها مؤسسة التراث (مركز الأبحاث المحافظ الشهير)*، المعروفة باسم “مشروع 2025″، التي تدعو الولايات المتحدة للخروج من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وبعد اختيار ترامب لمذيع فوكس نيوز “بيث هيغسيث” لمنصب وزير الدفاع، أدان هيغسيث الأمم المتحدة باعتبارها “منظمة عالمية تعمل بقوة على تعزيز أجندة مناهضة لأميركا وإسرائيل ومعادية للحريات”.
ينبغي ألا يكون مفاجئا إذن أن يُولِّد فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأخيرة عناوين رئيسية مثل “أميركا تختار دورا جديدا في العالم”، و”ترامب سيوجِّه الضربة النهائية للنظام الليبرالي”. لا شك أن ولاية ترامب الثانية ستُعيد توجيه السياسة المحلية والدولية، وهو ينوي دفع كلتيهما نحو اتجاهات غير ليبرالية، لكن رئاسته لن تُنهي ما يُسمى بـ”النظام الدولي الليبرالي”، لسبب بسيط للغاية وهو أن ذلك النظام يحتضر بالفعل.
ويُعرف النظام الدولي الليبرالي اختصارا بأنه مجموعة المؤسسات الدولية والترتيبات والمعاهدات التي تولَّت واشنطن زمام المبادرة في إنشائها خلال العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي “الناتو”. وقد عزَّزت هذه المؤسسات، ظاهريا وأحيانا فعليا، حقوق الإنسان والتجارة الحرة والديمقراطية والتعاون متعدد الأطراف.
عملت واشنطن، جنبا إلى جنب مع حلفائها الأقوياء، على توسيع وإعادة صياغة هذا النظام بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، مما ترك الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. وشهد هذا التوسع موجة من انتشار الديمقراطية، وأثمر إنشاء منظمة التجارة العالمية والدفع العالمي نحو التجارة الدولية غير المقيدة وحرية التدفقات المالية.
إعلان
ولكن على الجانب المقابل، وعلى مدار أكثر من عقد من الزمان، انخرطت الصين وروسيا في مشاريعهما الخاصة لإعادة التنظيم الدولي، وقد فعلتا ذلك أحيانا بشكل مباشر عن طريق الطعن في معايير حقوق الإنسان في الأمم المتحدة على سبيل المثال، وبشكل غير مباشر من خلال تقديم صفقات اقتصادية وأمنية غير مبالية بالدفاع عن الحكم الديمقراطي ومكافحة الفساد.
في غضون ذلك، عزَّز التدهور النسبي لدول مجموعة السبع أوراق المساومة لدى الدول الأضعف. وللمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تتمتع مثل هذه الدول الآن ببدائل ذات مغزى للأسواق الغربية، ومساعدات التنمية، ووسائل الحماية العسكرية. كما أدى صعود الشعبوية الرجعية -ليس فقط في أميركا الشمالية وأوروبا ولكن أيضا في الهند وأجزاء من أميركا اللاتينية- إلى تحطيم الهيمنة الأيديولوجية التي تمتعت بها الليبرالية لمدة عقدين من الزمان بعد نهاية الحرب الباردة.
وليس أدل على ذلك من احتفاظ الرئيس الأميركي جو بايدن بجوانب رئيسية من النهج الاقتصادي القومي لسلفه “وخلفه” ترامب، بما في ذلك الرسوم الجمركية، وتبنّيه أول سياسة صناعية أميركية منذ عقود من خلال قانون الرقائق وقانون خفض التضخم.
في ضوء ذلك، من الواضح أن الإشارات الحالية إلى “النظام الدولي الليبرالي” تقلل من أهمية القوة المتنامية للنزعة غير الليبرالية في السياسة العالمية. كما أن تلك العبارة العريضة توحي خطأً بأن العديد من جوانب النظام الدولي المعاصر مثل سيادة الدول وحكم القانون والتعددية هي أمور ليبرالية بطبعها أو بالضرورة، في حين أنها في الواقع متوافقة تماما مع بعض أشكال السياسة غير الليبرالية.
ودعونا نتأمل هنا في مفارقة أن الصين وروسيا -وهما دولتان غير ليبراليتين- لا تسعيان إلى تدمير التعددية، وعلى العكس من ذلك فإنهما تتسابقان لتوسيع نفوذهما في المؤسسات متعددة الجنسيات القائمة منذ فترة طويلة وإنشاء مؤسسات مماثلة خاصة بهما.
إعلان
يرجع هذا جزئيا إلى فهمهما للقوة التي توفرها مثل هذه المؤسسات للولايات المتحدة. والواقع أن العناصر المهمة لما يُعرف بـ”النظام الدولي الليبرالي” تُشكِّل في واقع الأمر مكونات البنية التحتية الأساسية للقوة الأميركية. ونعني بذلك المعايير والمؤسسات والعلاقات التي توفر لواشنطن قدرة لا مثيل لها على التأثير على الدول الأخرى، وتنسيق الاستجابات للتهديدات الناشئة، وتأمين التعاون في المسائل التي تعتبرها حاسمة لمصالحها الوطنية.
لذلك، فإن السياسة الخارجية محدودة الأفق التي تهتم فقط بالحفاظ على القوة الأميركية لا بد أن تستثمر في دعم العناصر الرئيسية لهذا النظام. ولكن مع فوز ترامب، يرغب القوميون الأميركيون المنتشون في تدمير شبكة لا مثيل لها من النفوذ الأميركي استغرق بناؤها أكثر من 50 عاما.
في مواجهة ذلك، ينبغي لـ”الأمميين” أو “العالميين” الذين يعارضون هؤلاء القوميين أن يعيدوا النظر في حديثهم وطريقة تفكيرهم بشأن المخاطر. ويُعد احتقار ترامب للمؤسسية صورة طبق الأصل للطريقة التي بررت بها إدارة بايدن، والأمميون الليبراليون على نطاق أوسع، لتفضيلاتهم في السياسة الخارجية، بما في ذلك التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي ودعم أوكرانيا، زاعمين أن كل تلك السياسات ضرورية للدفاع عن المبادئ الثابتة التي تشمل مساندة الديمقراطيات وحماية النظام الليبرالي في جميع أرجاء العالم.
ومع ذلك، فإن هذه الحجة أصبحت بعيدة جدا عن الواقع المعقد للسياسة الدولية المعاصرة. لقد فشل تأطير إدارة بايدن لأزمة أوكرانيا في التأثير على دول الجنوب العالمي، التي صارت تربط الخطاب الأميركي حول النظام الدولي الليبرالي أو القائم على القواعد بجهود الغرب لإملاء سياساته الاقتصادية ومساعيه للتدخل في شؤونها الداخلية، وعدم احترام استقلالها السيادي. وظهرت أصداء ذلك في ردود الفعل العنيفة ضد الولايات المتحدة بسبب دعمها الثابت للغزو الإسرائيلي لقطاع غزة.
إعلان
لقد حان الوقت للتخلي عن الفهم العتيق للسياسة الدولية الذي يجسده مصطلح “النظام الدولي الليبرالي”، بعد أن أصبح هذا المفهوم أقل جاذبية، بل إنه بات يُثقل كاهل مناقشات السياسة الخارجية بقدر وفير من الأعباء الأيديولوجية. والأسوأ من كل هذا أنه يدفع الآن الشعبويين الرجعيين و”ما بعد الليبراليين” إلى تبنّي ودعم سياسات ربما تُسهم عن طريق الخطأ في إضعاف الولايات المتحدة.
حقيقة الناتو
من المهم التذكير أن الناتو تأسس في الواقع بوصفه حلفا دفاعيا بين الديمقراطيات الليبرالية، وهو حلف متجذر في المبادئ الدولية التي وضعها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في ميثاق الأطلسي لعام 1941. وبعد نهاية الحرب الباردة، أعادت المنظمة تعريف هويتها باعتبارها مرساة لمجتمع أمني ديمقراطي ليبرالي وليست مجرد تحالف دفاعي يهدف بشكل أضيق إلى ردع التهديدات الخارجية.
لكن الأساس المنطقي لالتزام الولايات المتحدة تجاه حلف الناتو، فضلا عن دعمها لأوكرانيا، لا يمكن اختزاله في رغبتها المبدئية في حماية وتعزيز الليبرالية في جميع أنحاء العالم. في الواقع، فإن حلف الناتو مدين بوجوده لمبدأين أساسيين من مبادئ الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية: أولهما أن واشنطن لا تستطيع أن تتحمل رؤية قوة منافسة تفرض هيمنتها على أوروبا، والثاني أن منع مثل هذه النتيجة يتطلب وجودا عسكريا أميركيا مستمرا في القارة العجوز.
خلصت أميركا إلى هذين المبدأين بالتجربة الصعبة، بعد أن فشل العالم في منع قيام حرب عالمية جديدة، وبعد أن طالت تلك الحرب لزمن طويل. وفي النهاية، دفعت واشنطن وبقية العالم ثمنا باهظا من الدماء والأموال بسبب محاولتها النأي بنفسها عن لعبة النفوذ في أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
وعلى النقيض تماما من ذلك، حقق حلف شمال الأطلسي منذ تأسيسه أهدافا إستراتيجية أميركية رئيسية ليس فقط من خلال ردع الاتحاد السوفيتي، ولكن أيضا عبر “إبقاء ألمانيا ضعيفة”، وفق حديث هاستينغز إسماي، الأمين العام الأول للحلف.
إعلان
لم يضع حلف شمال الأطلسي حدًّا لتهديد ألمانيا ضد جيرانها فحسب، بل قلَّل إلى حدٍّ كبير من خطر انخراط أيٍّ من الدول الأعضاء في صراع عسكري كبير، وقد أثبت هذا الترتيب نجاحه إلى الحد الذي جعل الحرب بين فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة تبدو الآن غير واردة. وبينما كان المهندسون الأميركيون لحلف شمال الأطلسي قلقين من تحقيق قوة منافسة للهيمنة في أوروبا، أصبحت الولايات المتحدة اللاعب المهيمن في الأمن الأوروبي.
يعتقد العديد من خبراء السياسة الخارجية الذين ينادون بـ”أميركا أولا” ومَن يصفون أنفسهم بـ”الواقعيين” أنهم قادرون على تقليص التزامات الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي بشكل كبير دون تعريض أهدافها الإستراتيجية الراسخة في غرب أوراسيا للخطر، مشيرين إلى تطورات ما بعد الحرب الباردة مثل السهولة الواضحة لردع روسيا عن غزو أوروبا، وغياب الاحتكاك العسكري بين الدول الأوروبية، ووجود اتحاد أوروبي فعال.
ولا يحتاج الأمر إلى كثير من الجهد لبيان خطأ هذا الاعتقاد، فالالتزام الأميركي تجاه حلف شمال الأطلسي هو الذي جعل كل هذه التطورات ممكنة في المقام الأول. ويزعم أنصار الانسحاب الأميركي أن الاتجاهات الحالية سوف تستمر حتى لو قلَّصت واشنطن حضورها، ومن المحتمل أن يكونوا على صواب. ولكن إذا كانوا مخطئين، فإن التكاليف سوف تفوق بكثير أي مكاسب محتملة قد تحققها الولايات المتحدة من خلال تحرير بعض القوات لاستخدامها في منطقة آسيا والمحيط الهادي.
إن الولايات المتحدة لا تفي بالتزاماتها تجاه حلف الناتو انطلاقا من نوع من الإيثار المضلل، ولكن لأن الحلف يظل أداة حاسمة من أدوات القوة الأميركية، إذ يضمن حلف شمال الأطلسي أن تظل المنافسة بين الولايات المتحدة وأوروبا محصورة في المجال الاقتصادي. وفي هذا المجال، يساعد الحلف أيضا في الحفاظ على السوق الأوروبية -إحدى أكبر الأسواق في العالم التي تُمثِّل 15% من التجارة العالمية- صديقة للولايات المتحدة ومتماشية مع المصالح الاقتصادية الأميركية.
إعلان
وإذا كان العالم على وشك الدخول في عصر جديد أكثر فوضوية بفعل المنافسة بين القوى الكبرى، فإن وجود حلف شمال الأطلسي يقلل بشكل كبير من عدد المنافسين الجيوسياسيين الجادين الذين تواجههم الولايات المتحدة. ويتعيَّن على صناع السياسات الذين يعتقدون أن أميركا تستطيع ببساطة “التحول إلى آسيا” أن يفهموا أن واشنطن سوف تحتاج إلى دعم جميع حلفائها الحاليين إذا كانت تنوي التنافس مع الصين. وبالفعل، عززت أنشطة الناتو في دعم أوكرانيا استعداد الدول الحليفة للعمل بالتنسيق مع واشنطن ضد بكين.
الاستخدام المزدوج
في خضم عدائهم لكل ما هو “ليبرالي”، يلعب العديد من مستشاري ترامب لصالح منافسي أميركا. والمفارقة هنا هي أن خصوم الولايات المتحدة الاستبداديين لا يجدون صعوبة في التمييز بين التعددية والليبرالية. والواقع أنهم يبنون بنيتهم التحتية الخاصة من المؤسسات الدولية والمنتديات متعددة الأطراف، وقد أحرزت الصين بالفعل تقدما كبيرا على هذه الجبهة، بعد أن أسَّست أو تولَّت زمام المبادرة في عدد كبير من المؤسسات الجديدة، بما في ذلك مجموعة البريكس، التي كانت البرازيل وروسيا والهند وجنوب أفريقيا أوائل أعضائها، ومنظمة شنغهاي للتعاون، مع دول آسيوية أخرى، بما في ذلك روسيا.
على قائمة هذه المؤسسات يحضر أيضا البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومنتدى التعاون الصيني الأفريقي، ومنتدى الصين وتجمع دول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي، وهو مجموعة من القمم التي تلتقي فيها الصين مع حكومات أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وأخيرا وليس آخرا، آلية تعاون الصين وآسيا الوسطى التي أُعلن عن إنشائها مؤخرا.
تستغل بكين هذه المؤسسات والمنتديات والآليات لتعزيز أهدافها -غير الليبرالية إلى حدٍّ كبير- ومواجهة الولايات المتحدة. على سبيل المثال، عارض إعلان أستانا، الذي تبنَّته منظمة شنغهاي للتعاون في يوليو/تموز 2024، التدابير الحمائية و”أنظمة الدفاع الصاروخي أحادية الجانب”، في تعريض مُبطَّن بالولايات المتحدة.
إعلان
لا تركز الصين ولا روسيا حصريا إذن على بناء قدراتهما المؤسسية الخاصة، لكنهما تسعيان إلى تقويض النفوذ الأميركي الحالي في النظام الدولي. وبدلا من مهاجمة المؤسسات القائمة مثل الأمم المتحدة، ركزت الصين وروسيا على توسيع نفوذهما في هذه المؤسسات.
تستفيد بكين وموسكو أيضا من ميل القادة الأميركيين إلى النظر إلى السياسة العالمية من خلال عدسة الشعارات الأيديولوجية، ولنتأمل على سبيل المثال روسيا التي تراقب بسعادة تحوُّل اليمين الأميركي بعيدا عن دعم أوكرانيا استجابة لهواجس ترامب الخاصة.
ولو كان ترامب أقل إعجابا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو كانت نظرته للعالم تأخذ بالاعتبار مناقشات تقاسم الأعباء في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، عندما كانت التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وألمانيا واليابان في ذروتها، لكان من المرجح أن يدعم عدد أكبر من المحافظين الأميركيين تقديم المساعدات إلى كييف. لا عجب أن يبذل الكرملين جهودا طويلة الأجل لتعزيز اليمين الأميركي باستخدام الأساليب نفسها التي استخدمتها الاستخبارات الروسية لبناء علاقات مع أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية، بما في ذلك الرحلات السياحية والدعم المالي والدعاية.
تدرك موسكو أن التزامها الظاهري بـ”المحافظة الثقافية” في كثير من الأحيان يمنحها قوة ناعمة في صفوف اليمين الأميركي، وهي تستخدم هذه الميزة للترويج لرؤية للنظام الدولي معادية لحلف الناتو ومناهضة للعولمة وسط صفوف المحافظين الأميركيين. ولا ترغب روسيا في تقويض حلف الناتو لأنه “ليبرالي” أو “مناصر للعولمة”، ولكن لأن إضعافه من شأنه أن يعزز قوتها على حساب الولايات المتحدة.
وشأنها شأن الصين، تسعى روسيا إلى زيادة نفوذها في ذلك النوع من المؤسسات التي يرفضها معسكر ترامب. وفي يوليو/تموز، عندما استضافت روسيا قمة البريكس لعام 2024، كانت حريصة على تقديم المنظمة باعتبارها ثقلا موازنا للمؤسسات المالية متعددة الجنسيات التي يقودها الغرب، وروَّجت لحضور الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.
إعلان
تسعى الصين وروسيا إلى إيجاد أشكال جديدة من المشاركة متعددة الأطراف، لأنهما تدركان أهمية ذلك جيدا. وعلى النقيض من فترة الحرب الباردة، عندما اختارت العديد من البلدان أو أُرغمت على التحالف مع أحد طرفَيْ الحرب، تريد الدول في عالم اليوم التحوط ضد المخاطر وتعظيم نفوذها من خلال إنشاء محفظة متنوعة من الالتزامات الأمنية والدعم السياسي والمساعدات من القوى المتنافسة. ينطبق ذلك حتى على الحكومات المتحالفة بشكل وثيق مع الولايات المتحدة التي أصبحت أكثر استقلالية ومبادرة في سياستها الخارجية.
لننظر مثلا إلى الهند التي تحولت عن قلقها المبدئي بشأن الحياد في حرب أوكرانيا إلى دفاع واثق عن حقها في الاستقلال الإستراتيجي والحفاظ على الحوار مع موسكو. وتظل تركيا جزءا من حلف شمال الأطلسي، لكنها رفضت الانضمام إلى نظام العقوبات المناهض لروسيا، وتقدمت بطلب للانضمام إلى مجموعة بريكس، وتواصل تعزيز مصالحها الخاصة في الشرق الأوسط. أما الإمارات العربية المتحدة، فلم يمنعها موقعها بوصفها شريكا أمنيا رئيسيا للولايات المتحدة من ترسيخ نفسها بوصفها مركزا لاستقطاب الروس الذين يريدون التهرب من العقوبات الأميركية.
التخلي عن القوة
على المدى القريب، إذا انسحب ترامب من التحالفات والمؤسسات الدولية متعددة الأطراف، فلربما تنجح سياسته الخارجية القائمة على المعاملات التجارية البحتة في انتزاع تنازلات أكبر من البلدان التي تعتمد على الضمانات الأمنية الأميركية أو لا تستطيع تحمل خسارة القدرة على الوصول إلى الأسواق الأميركية. ولكن المنافسة بين القوى العظمى سرعان ما ستمنح العديد من هذه البلدان خيارات بديلة، ويمكنها ساعتها التحول نحو أسواق تصدير أخرى، أو إيجاد مصادر بديلة للمساعدات الإنمائية، أو السعي إلى الحماية العسكرية من قوة عظمى منافسة.
أكثر من ذلك، إذا تخلَّت الولايات المتحدة، صراحة أو ضمنا، عن الحد الأدنى من الالتزام ببعض مبادئ السياسة الخارجية التي تبنَّتها منذ فترة طويلة مثل حقوق الإنسان والديمقراطية والحكم الرشيد فسوف تفقد جميع المزايا التي تفرقها عن سائر منافسيها من القوى العظمى.
إعلان
ومن المؤكد أن واشنطن لم ترق قط إلى مستوى التعبير النموذجي عن قيمها سواء في سياستها الداخلية أو سلوكها الدولي، لكن الولايات المتحدة فازت بولاء الكثير من الدول لأنها وقفت نصيرا للمثل العليا التي تتمتع بجاذبية دولية واسعة النطاق، وترجع الاتهامات التي تطول واشنطن بالنفاق إلى كون دعمها لهذه المبادئ غير متسق أو مستمر، وليس لكونه غير موجود بالأساس.
وهكذا، في حال اعتنقت أميركا طريقة ترامب القائمة على الصفقات نهجا لسياستها الخارجية، فإنها سوف تفقد أصلا “ملطخا” أو “ملوثا” لكنه لا يزال ثمينا للغاية ضمن مجموعة أدواتها في لعبة القوة السياسية. وعندما تسأل الحكومات الأخرى نفسها لماذا ينبغي لها أن تتعاون مع الولايات المتحدة بدلا من الصين على سبيل المثال، فإن الإجابة الوحيدة ستكون هي الحصول على منافع مادية أكبر، وهذا يعني أن واشنطن سوف تضطر إلى إنفاق المزيد للحصول على أقل مما تحصل عليه بالفعل.
هناك طرق أخرى قد يؤدي بها التخلي عن القيم الليبرالية -أو القيم التي غالبا ما يرمز إليها بأنها ليبرالية مثل مكافحة الفساد- إلى إلحاق الضرر بأمن الولايات المتحدة، وتقويض مصالحها الاقتصادية، وتقليص قوتها، ووضعها تحت رحمة المنافسين.
لقد سمحت لحظة الأحادية القطبية بعد الحرب الباردة للولايات المتحدة ببناء صندوق ضخم من آليات السياسة التي تؤثر بها على البلدان والشركات والأفراد في مختلف أنحاء العالم، ومثل بعض الأنظمة الكليبتوقراطية (مصطلح يعني حكم اللصوص ويشير للأنظمة السياسية التي تعتمد في بقائها على نهب ثروات شعوبها لإثراء السياسيين الفاسدين)* لربما يعيد ترامب بسهولة استخدام هذه الأدوات لإثراء نفسه وأصدقائه.
إن وزارة العدل ووزارة الخزانة المسيّستين يمكن أن تستخدما تدابير مكافحة الفساد التي ينص عليها قانون مكافحة ممارسات الفساد الأجنبية، وقانون منع الابتزاز الأجنبي، وبرنامج عقوبات ماغنيتسكي لملاحقة المسؤولين الأجانب الذين يسيئون إلى ترامب أو استهدافهم من خلال تحقيقات فساد تستغرق وقتا طويلا في مقابل مدفوعات أو خدمات، وربما يستخدم أي زعيم أميركي غير ليبرالي مثل هذه الأدوات بشكل انتقائي وتعسفي لمعاقبة الحكومات التي ترفض التعامل مع أصدقائه المقربين.
إعلان
والحقيقة أن مثل هذا السلوك من شأنه ليس فقط أن يُعرِّض الأمن القومي الأميركي للخطر، ولكن أيضا أن يدمر أدوات مهمة للقوة الأميركية. ولنتأمل هنا قدرة الولايات المتحدة على فرض عقوبات مستهدفة، وتطبيق أنظمة عقوبات أوسع نطاقا، والتحقيق في قضايا الفساد في بلدان أخرى، واستهداف تمويل الجماعات الإرهابية. تعود قدرة واشنطن على القيام بمثل هذه الأمور بفعالية إلى الطرق التي تهيمن بها على النظام المالي العالمي، مثل منع الجهات الخاضعة للعقوبات من التعامل بالدولار الأميركي سواء في أميركا أو عبر النظام المالي الدولي.
تتسامح العديد من الحكومات الأجنبية مع ضعفها النسبي هذا، لأن الولايات المتحدة تستخدم هذه الأدوات بطرق يمكن التنبؤ بها إلى حدٍّ كبير. ولكن إذا بدأ رئيس أميركي في توظيفها لأغراض فاسدة، فإن البلدان الأخرى ستصبح أقل استعدادا لقبول ضعفها أمام الضغوط المالية الأميركية.
وساعتها سوف تسعى هذه الدول إلى إيجاد سُبل للحد من نفوذ واشنطن على النظام المالي العالمي من خلال زيادة احتياطياتها من العملات غير الدولارية، بما في ذلك الأصول الرقمية والعملات المشفرة، واستخدامها في المعاملات الدولية. ورغم غياب أي بديل موثوق للدولار الأميركي حتى الآن، فإن الدول الخاضعة للعقوبات، بما في ذلك إيران وكوريا الشمالية وروسيا، ترى تقويض الهيمنة الدولية للدولار ضمن أولوياتها.
الواقع أن ترامب وأتباعه على استعداد لارتكاب سلسلة من الأخطاء المجانية في السياسة الخارجية الأميركية مدفوعين بمعارضة أيديولوجية لنظام -النظام الليبرالي- لا يفهمون طبيعته أو قيمته بوضوح. والمفارقة أن طبيعة هذا النظام تتغير بالفعل بسبب قوى خارجة تماما عن سيطرة الولايات المتحدة.
وللتعامل مع التحديات العاجلة مثل الصراع بين الدول والهجرة واسعة النطاق، يحتاج صناع السياسات في واشنطن إلى إحساس حاد ودقيق بالسلطات والمزايا التي تمتلكها بلادهم. ولكن الخوف -كل الخوف- أن ترامب، في سبيل تأكيد رؤيته للتفوق، سوف يدمر البنية التحتية التي ساعدت الولايات المتحدة على تعزيز مصالحها الأساسية خلال عصور سابقة من التغيير السياسي المضطرب.
إعلان
لذلك يتعين على “الأمميين” أن يسلطوا الضوء على التكاليف الحقيقية لمثل هذا المشروع المدفوع أيديولوجيا. وإذا لم يتمكنوا من الحفاظ على تلك البيروقراطيات المكلفة عبر إدارة الالتزامات العالمية لأميركا، وإذا لم يتمكن البراغماتيون في إدارة ترامب من تعديل سياسته الخارجية القائمة على مبدأ “أميركا أولا”، فإن الرئيس القادم سوف يتخلى طواعية عن أدوات القوة التي تدعوه جميع المصالح الأميركية الممكنة إلى الحفاظ عليها.
___________________
هذه المادة مترجمة عن موقع فورين أفيرز ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت.