حرب السودان المنسية.. عندما يمتزج الألم مع الإيمان بالقضاء والقدر
نشرت صحيفة تايمز البريطانية تقريرا مطولا من داخل السودان لمراسلها أنتوني لويد يسلط الضوء على الصراع الدائر هناك بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتأثيراته على المدنيين العزل.
وآثر المراسل أن يستهل تقريره بمشهد يوجز مأساة الحرب المنسية في تلك الدولة، حيث حضر مراسم دفن رجل وطفل في قبر واحد بمدينة أم درمان، التي تشكل هي وشقيقتيها الخرطوم والخرطوم بحري العاصمة المثلثة للسودان.
اقرأ أيضا
list of 2 items
البرلمان التركي وحزب العمال الكردستاني يمهدان الطريق نحو السلام
صحف عالمية: لا مفر من تسوية بغزة والتعذيب في صيدنايا أفقد الناس صوابهم
end of list
سجون الدعم السريع
أما الرجل الذي تجمع حول جنازته المشيعون في مقابر أحمد شرفي، فيدعى محمد عبد السلام (37 عاما)، ويُلقب ببندق، وكان يمتهن حرفة البناء.
وكان بندق يعيش في حي الفتيحاب جنوب غربي أم درمان عندما سيطرت قوات الدعم السريع على المنطقة، واختفى دون أن يُعثر له على أثر، وقد ألقت تلك القوات القبض عليه للاشتباه في كونه متعاونا مع القوات المسلحة السودانية، وأودعته سجن سوبا في الخرطوم دون علم عائلته.
ولكن في نوفمبر/تشرين الثاني، تلقت شقيقته رانيا (40 عاما) مكالمة هاتفية من رجل أخبرها أنه وجد بندق ملقى على قارعة الطريق وتبدو عليه آثار الجوع والضرب، ويوشك على الموت.
هرعت رانيا، ومرت بنحو 38 نقطة تفتيش تابعة لقوات الدعم السريع لاستعادة شقيقها، وعندما عثرت عليه أخيرا، كان بندق غير قادر على الوقوف وكان هزيلا لدرجة أنه بالكاد يمكن التعرف عليه.
إعلان
وقالت رانيا إن شقيقها لم يكن قادرا على المشي، فاضطرت لنقله على عربة يدوية إلى محطة حافلات ومن هناك إلى المنزل، وهناك وصف لها بندق كيف عاش سنة من الرعب في أسر قوات الدعم السريع، حيث كانت يتغذى على كوب من العدس يوميا، ويتعرض للضرب المتكرر، ويرى سجناء آخرين يموتون من الضرب أو الجوع.
وكلما حاولت أخته إطعامه كان يتقيأ، نظرا لمعاناته الشديدة من سوء التغذية، وربما من إصابات داخلية أيضا، واستمر وزنه في النقصان إلى أن توفي بعد 10 أيام من إنقاذه، بحسب الصحفي لويد.
على الهامش
وتقول التايمز إن التعذيب والمرض علل غير مألوفة للموت في السودان، حيث الرصاص والقذائف والتجويع القسري والنهب والاغتصاب، كلها جزء من ترسانة الحرب.
وقد دفن آلاف القتلى في المقابر في جميع أنحاء البلاد منذ بدء الحرب في أبريل/نيسان 2023، ومات عدد كبير آخر بسبب سوء التغذية في الصحراء من دون تسجيلهم أو معرفة مصيرهم.
ومع ذلك، ورغم حجم وخطورة الصراع الذي يهدد حياة الملايين ويمكن أن يحول ثالث أكبر بلد في أفريقيا إلى “دولة فاشلة”، ظلت الحرب في السودان على هامش الاهتمام الدولي، حيث طغت عليها الصراعات في أوكرانيا والشرق الأوسط.
القطاع الطبي المدمر
وفي أوساط الطواقم الطبية السودانية التي تكافح من أجل إنقاذ الأرواح، غالبا ما يصاحب الغضب شعور بأن العالم تخلى عنهم.
وتنقل الصحيفة عن الدكتور جمال الطيب محمد، مدير مستشفى النو في أم درمان -وهو أحد المرافق الطبية القليلة التي لا تزال تعمل في المدينة التي دمرتها الحرب- قوله بينما كان يقف في جناح يضم جرحى: “لا أعتقد أن المجتمع الدولي يهتم، ولا يعرف ما يحدث هنا”.
وأضاف: “إنهم لا يعلمون مدى تأثير هذه الحرب على الفقراء والضعفاء الذين فقدوا مصادر رزقهم ووظائفهم وسبل عيشهم، كل شيء حولنا يتم تدميره”.
إعلان
ووفقا للتايمز، فقد دمرت الحرب ما 60% و70% من المرافق الطبية في السودان، بالإضافة إلى معظم مصانع إنتاج الأدوية الرئيسية في البلاد، وتتعرض المرافق المتبقية لضغط شديد. فمستشفى النو -على سبيل المثال- يستقبل ما بين 500 و600 مريض يوميا، ولاحظ المراسل أن العديد من المرضى كانوا يتلقون العلاج وهم ممددون على الأرض.
أطفال الحرب
وتساءل الدكتور محمد بمرارة قائلا: “أين منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر؟ لم نرهم هنا أبدا، ربما طاروا إلى بورتسودان” المقر المؤقت للحكومة، مضيفا أنه باستثناء “منظمة أطباء بلا حدود، فإننا نشعر بأنه جرى التخلي عنا”.
وبعد حديثه مع لويد، انتقل الطبيب ليعتني بطفلة في سرير قريب. وكانت غيثة، البالغة من العمر 6 سنوات، تنظف أسنانها صباح اليوم السابق في فناء منزل عائلتها في حي القماير بأم درمان، عندما سقطت قذيفة أطلقتها قوات الدعم السريع، وكان شقيقها محمد (9 سنوات) يلعب على دراجته بجانبها، فانفجرت القذيفة في رأسه وأردته قتيلا، وأصابتها هي في ذراعها.
ويقول لويد إن غيثة ترقد الآن عاجزة عن الكلام، وقد أصيبت بشظايا في ذراعها وساقها اليسرى، وتعتني بها جدتها التي قالت إن القذيفة “مزقت جسد ابننا أمامنا، ولم نستطع فعل شيء”.
الحانوتي المشهور
ومن سخرية القدر، أن الحانوتي عابدين درمة (60 عاما) أصبح من أشهر الشخصيات في المدينة، حتى أن سائقي السيارات والمارة والأطفال يلوحون لتحيته ويتوقفون لمصافحته، بل إن هناك لوحة إعلانات عملاقة تحمل صورته مرتديا جلبابا أخضر الذي بات سمة مميزة له، ويرتدي عمامة باهتة اللون، كما ورد في التقرير.
ونقل لويد عن درمة القول: “في هذه الأيام، مع الحرب والمرض وضعف مناعة الكثير من الناس بسبب الإجهاد والجوع، ندفن من 15 إلى 20 شخصا في اليوم، وأحيانا 50 شخصا”.
إعلان
وقال المراسل إنه أثناء سيره في الشوارع المحطمة بالمدفعية حول مقر هيئة الإذاعة والتلفزيون، “أراني جنود القوات المسلحة السودانية العديد من المقابر المرتجلة، بعضها نبشتها الكلاب جزئيا، حيث دُفن قتلى من المدنيين”.
وأكمل أنه “لم يكن من الواضح إذا ما كانوا قد لقوا حتفهم جراء نيران القذائف أو في زنازين قوات الدعم السريع، فقد كانت الملابس الملطخة بالدماء معلقة على الأشجار. وعلى أحد القبور، كان هناك صليب مصنوع من الأغصان وثوب امرأة ممزق يمثل مكان رقاد أحد القتلى المسيحيين”، وفق رواية مراسل التايمز البريطانية.
قدر مكتوب
وأضاف لويد أن هناك عبارة باللغة العربية توقف عندها، وهي كلمة “مكتوب”، التي قال إنها توحي بأن يقع للمرء قدر مكتوب، وتعبر عن شعور سائد لدى السودانيين بأن ما يتعرضون له هو قضاء وقدر، مما يمنحهم إحساسا بالرضا والقبول، على مرارة الوضع.
وربما كان هذا النوع من القبول -برأي المراسل- مرتبطا فعلا بالإيمان، أو ربما كان نابعا من الضرورة، أي الوعي بأنه في غياب الأمل لم يكن هناك خيار آخر سوى التحمل في حرب كارثية لا نهاية متوقعة لها، خلفت 150 ألف قتيل و11 مليون نازح.