ملامح العلاقات الأميركية الباكستانية في ظل عودة ترامب
منذ تأسيس باكستان عام 1948، ظلت العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة متأرجحة بين شراكة إستراتيجية في مواجهة التحديات العالمية مثل الحرب الباردة ومواجهة الغزو السوفياتي لأفغانستان، وبين توتر بسبب إقدام باكستان على تصنيع القنبلة النووية والتقارب مع الصين وقيامها بدور مزدوج خلال الغزو.
وكانت إدارة دونالد ترامب أثناء فترته الأولى قد اتهمت إسلام آباد بالخداع بزعم توفيرها ملاذًا لمن تصفهم بـ”الإرهابيين”، وهي سردية أدت إلى توتر كبير في العلاقات الثنائية خلال الفترة الأولى من حكمه، ففي تغريدة عام 2018 هدد الرئيس الأميركي بقطع المساعدات قائلا “لقد أعطت الولايات المتحدة باكستان بحماقة أكثر من 33 مليار دولار كمساعدات على مدار الـ15 عامًا الماضية، ولم يقدموا لنا سوى الأكاذيب والخداع”.
وبعدها تبنى ترامب موقفًا صارمًا تجاه باكستان مما أدى إلى تعليق مؤقت للمساعدات العسكرية لإسلام آباد كإجراء عقابي.
ولاحقا، أدى سعي باكستان إلى فتح قنوات للحوار بشأن أفغانستان إلى إعادة ضبط العلاقات بين الجانبين، واعتمد ترامب على إسلام آباد لتسهيل مفاوضات السلام مع حركة طالبان الأفغانية في العاصمة القطرية الدوحة التي مهدت الطريق في النهاية لسحب القوات الأميركية من أفغانستان.
وبعد فوز ترامب بولاية ثانية في الانتخابات وعودته عما قريب إلى البيت الأبيض، ومع توقف أفغانستان عن كونها نقطة محورية للعلاقات بين باكستان والولايات المتحدة، تظهر مخاوف بشأن ما إذا كانت إسلام آباد ستظل ذات أهمية على أجندة واشنطن، أم أن الرئيس الأميركي سيكتفي بالحفاظ على العلاقات القائمة مع الحد الأدنى من الانخراط دون تحقيق تقدم يذكر على الصعيدين الاقتصادي والعسكري؟
ترحيب باكستاني بعودة ترامب
مع إعلان انتخاب ترامب رئيسًا للولايات المتحدة لفترة ولاية ثانية، سارع زعماء من باكستان إلى تقديم التهاني للرئيس المنتخب، فقد وصف رئيس الوزراء شهباز شريف هذا الفوز بأنه “انتصار تاريخي لولاية ثانية”.
وانضم رئيس الوزراء السابق عمران خان أيضًا إلى المهنئين معربًا عن تهنئته من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وانخرط أنصاره في مناقشات بشأن آثار فوز ترامب على مصير خان، الذي يقبع في السجن منذ أكثر من عام بسب اتهامه في قضايا الفساد.
وقد أنعشت تغريدات المبعوث الأميركي الخاص السابق لأفغانستان السفير زلماي خليل زاده -وهو جمهوري كان مقربا من ترامب- المؤيدة لعمران خان آمال أنصار حزبه بإطلاق سراحه في عهد ترامب الجديد.
وعبرت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الباكستانية ممتاز زهرة بلوش عن موقف بلادها من فوز ترامب بقولها إن “باكستان والولايات المتحدة صديقان وشريكان قديمان، وسنواصل متابعة علاقاتنا على أساس الاحترام والثقة المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضنا البعض”.
ويبدو من تصريحات المسؤولين الحكوميين والقيادات السياسية في باكستان أن إستراتيجية باكستان تجاه الولايات المتحدة تعتمد على تعزيز علاقات إيجابية مع ترامب في وقت مبكر من ولايته.
وتعكس تصريحات المسؤولين رغبة القيادة الباكستانية في التقارب وإقامة علاقة ودية وتعزيز علاقات إيجابية مع ترامب في وقت مبكر من ولايته.
سياسة “أميركا أولا” وباكستان
ويرى المراقبون أن تعامل ترامب مع باكستان ينبغي أن يقرأ في إطار السياسات الخارجية لإدارته في الفترة المقبلة، إذ إنه من المتوقع أن يعزز برنامج الرئيس الأميركي رؤيته “أميركا أولا”، مع التركيز على ملفات مثل إصلاح نظام الهجرة، وتعزيز السياسات الاقتصادية الحمائية، وتقليص المساعدات الخارجية، والحد من التورط في الصراعات الدولية.
كما أنه من المرجح أن تتمحور سياسات ترامب حول فرض قيود أشد على الهجرة، وتعزيز استقلالية الطاقة، ومواصلة التركيز على المنافسة مع الصين، مما سيترك أثرًا على التحالفات التجارية والجيوسياسية عالميًا.
ويعني هذا حصول تغييرات ملموسة في السياسة الخارجية الأميركية، خاصة مع الحلفاء والخصوم مثل شركاء الناتو وروسيا والصين، ومن المتوقع أن تركز الإدارة الأميركية الجديدة على إبرام اتفاقيات ثنائية بدلا من الاتفاقيات المتعددة الأطراف، مع إعطاء الأولوية للعلاقات القائمة على المصالح المتبادلة في هذه الحالة.
بالنسبة لدولة مثل باكستان، فقد يتطلب هذا التحول التأقلم مع سياسة أميركية أقل انخراطًا في صراعات جنوب آسيا الإقليمية، مع تركيز أكبر على مواجهة النفوذ الصيني، مما يؤثر على التوازن الاقتصادي والدبلوماسي في باكستان مع الأخذ بعين الاعتبار وجود علاقات سياسية واقتصادية قوية بين إسلام آباد وبكين وتقاربهما الإستراتيجي في مواجهة تنامي الدور الهندي في المنطقة.
التعيينات الجديدة في إدارة ترامب
يرى الصحفي الباكستاني عمير جمال أن التعيينات الأخيرة للرئيس المنتخب ترامب في مناصب رئيسية في إدارته، مثل وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، لا تبشر بالخير لعلاقة باكستان مع الولايات المتحدة.
واختيار عضو الكونغرس عن فلوريدا مايك والتز، المعروف بموقفه المتشدد ضد الصين، كمستشار للأمن القومي -وهو دور رئيسي في السياسة الخارجية داخل البيت الأبيض- يشير إلى تحول نحو موقف أكثر عدائية تجاه الصين، وقد صرّح علنًا أن الولايات المتحدة تخوض “حربًا باردة” مع الصين، وكان من أوائل من دعا إلى مقاطعة الولايات المتحدة لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022 في بكين.
علاوةً على ذلك، بصفته رئيسًا مشاركًا لمجموعة الهند في الكونغرس، كان والتز داعمًا قويًا لتأسيس تحالف رسمي بين الهند والولايات المتحدة، معتبرًا الأولى شريكة أساسيًة في مواجهة نفوذ الصين وضمان الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادي.
كذلك فإن السيناتور ماركو روبيو الذي رشحه ترامب لمنصب وزير الخارجية يعد شخصية معروفة بآرائه المتشددة تجاه الصين ودعمه القوي للهند، وسيشغل منصب المستشار الرئيسي للرئيس في قضايا السياسة الخارجية ويشرف على العلاقات الدبلوماسية من خلال وزارة الخارجية.
وكان روبيو في وقت سابق من هذا العام قدم تشريعًا يهدف إلى تعزيز العلاقات الإستراتيجية بين واشنطن والهند، مع التدقيق في تصرفات باكستان فيما يتعلق بدعمها المزعوم لجماعات مسلحة وكيلة تستهدف الهند.
بالإضافة إلى أنه كان قد اقترح مشروع قانون حظر المساعدات الأمنية لباكستان إذا ثبت تورطها في دعم أعمال تخريبية ضد الهند، كما دعا المشروع إلى رفع مكانة نيودلهي فيما يتعلق بنقل التكنولوجيا إلى مستوى مشابه لما يتمتع به حلفاء تقليديون للولايات المتحدة مثل اليابان وإسرائيل.
ويضيف عمير جمال أنه “مع فريق يتميز بتوجهه المؤيد للهند والمعادي للصين بشكل متزايد، يبدو أن ديناميكيات العلاقات بين باكستان والولايات المتحدة ستواجه تحديات كبيرة في ظل إدارة ترامب الجديدة، ومن المرجح أن يتحول التركيز نحو مخاوف أمنية محددة تتعلق بنيودلهي، مع إخضاع علاقات إسلام آباد مع أقرب حليف لها وهو بكين لمزيد من التدقيق.
وحسب جمال فإنه “في الماضي، لعبت العلاقات الهندية الأميركية دورًا مهمًا في تشكيل العلاقات الباكستانية الأميركية بسبب النزاع التاريخي لإسلام آباد مع نيودلهي حول كشمير وغيرها من القضايا المتعلقة بالأراضي والموارد وبالتالي تظل باكستان شديدة الحساسية تجاه نمو العلاقات الثنائية بين الهند والولايات المتحدة”.
الملفات الباكستانية على طاولة ترامب
تقول الكاتبة الباكستانية سمر فاطمة شودري إنه في ظل سياسة “أميركا أولا”، شهدت المساعدات الخارجية تخفيضات كبيرة خلال الفترة الأولى لولاية ترامب، وكانت باكستان من بين الدول التي تأثرت بهذه القرارات.
ومع عودة ترامب للبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني القادم، بحسب شودري، فإن إدارته قد تواصل تقليص المساعدات الاقتصادية لباكستان مما قد يؤدي إلى تفاقم أزماتها المتصاعدة.
ومع ذلك، سبق أن أعرب ترامب عن اهتمامه بتوسيع الشراكات التجارية لتعويض تخفيض المساعدات، مما يفتح المجال أمام اتفاقيات تجارية قد تستفيد منها صادرات باكستان مثل المنسوجات والسلع الأخرى، على حد قولها.
ويرى بعض المحللين أنه لطالما دعا ترامب إلى تقليل الانخراط العسكري الأميركي في النزاعات الطويلة الأمد، وهو ما قد يؤدي إلى تقليص الوجود الأميركي في جنوب آسيا. وقد يدفع هذا التحول، القوى الإقليمية إلى تعزيز نفوذها، مما يخلق تحديات لباكستان.
وعلى سبيل المثال، يحافظ ترامب على علاقات قوية مع حكومة الهند الحالية والتي تقوي الموقف الهندي في المنطقة خاصة في صراعها مع باكستان في قضية كشمير، وقد يؤدي ذلك إلى تصعيد التوتر في المنطقة في ظل السياسة الصارمة لترامب تجاه الصين.
وقد تواجه باكستان ضغوطًا أميركية لإعادة تقييم شراكتها الاقتصادية مع الصين، بما في ذلك مشروع الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC) الذي يعتبر حيويا لباكستان، وبموجب الاتفاقية المبرمة بين البلدين تنفّذ الصين حزمة من مشاريع البنية التحتيّة في جميع أنحاء باكستان التي بلغت قيمتها وقت توقيع الاتفاق نحو 47 مليار دولار، في حين زادت قيمة المشاريع عام 2020 لتتجاوز الـ70 مليار دولار.
وقد تواجه إسلام آباد مزيدًا من التدقيق بسبب شراكاتها الاقتصادية والدفاعية مع بكين، مما يدفعها إلى موازنة علاقاتها مع القوتين العالميتين بعناية.
وفيما يخص ملف الإرهاب، فربما يواصل ترامب التركيز على التعاون الأمني المباشر مع باكستان، ولكنه قد يضع شروطًا صارمة لهذا التعاون، مثل اتخاذ إجراءات حاسمة ضد جماعات مسلحة محددة.
وقد تجد باكستان نفسها مضطرة إلى إعادة تقييم أولوياتها الإقليمية والدولية لتجنب التهميش على الساحة الأميركية، وسيعتمد مستقبل العلاقات بين البلدين على قدرة إسلام آباد على التكيف مع التحولات الأميركية والدولية، مع توجيه جهودها لتعزيز شراكاتها الإقليمية وتقديم نفسها كلاعب محوري في قضايا الأمن والسلام الإقليمي، خاصة في ظل الانعكاسات المتوقعة لسياسات ترامب خلال فترة ولايته الثانية.