وقف النار في لبنان إسرائيليا: لا منتصر ولا مهزوم
حلمي موسى
وهكذا أبرم رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، اتفاقه الأول في هذه الحرب التي زلزلت انطلاقتها أركان إسرائيل وهزت أسس وجودها. ورغم أن الاتفاق ظاهريا هو بين لبنان وإسرائيل فإنه عمليا بين إسرائيل والإدارة الأميركية التي نالت أخيرا مرادها بتحقيق إنجاز سياسي قبيل انتهاء ولايتها.
ومن وجهة نظر لبنانية، تؤيدها أوساط دولية مختلفة، فإن الاتفاق كان رغم كل ما مر به من دمار وقتل، تنفيذا للقرار الدولي 1701 الذي كانت إسرائيل نفسها تمتنع عن تنفيذه. ورغم أن هناك خلافات في لبنان حول معنى الاتفاق وسط الترحيب به، فإن الخلاف الأشد كان ولا يزال في إسرائيل ذاتها، وليس فقط بين الحكومة والمعارضة، وإنما داخل الحكومة وفي الأوساط الشعبية.
فحكومة نتنياهو عندما شنت الحرب الواسعة على لبنان، عمدت ظاهريا إلى الإيحاء بأن أهدافها محدودة وتتركز حول إبعاد خطر حزب الله عن الحدود، ولكنها واقعيا أرادت القضاء على حزب الله وإنشاء واقع أو نظام إقليمي جديد.
وقد ردد قادة إسرائيل السياسيون والعسكريون عبارات من قبيل تركيع حزب الله. وربما أن هذه الأهداف غير المعلنة رسميا، هي ما جعلت الإسرائيليين يتحملون قدرا كبيرا من الأعباء على أمل تحقيق مرادهم في إزالة حزب الله، وتوفير الأمن المطلق كنتيجة لانتصار مطلق وعدهم نتنياهو به.
وعندما تم إبرام الاتفاق شعر الجميع هناك، بأن هذا ليس مرادهم حتى لو آمن بعضهم بأنه يظل أفضل من استمرار الحرب التي كشفت الكثير من نقاط ضعف حكومتهم وجيشهم ومجتمعهم.
والاتفاق في نظر أغلب الإسرائيليين هو نوع من تهدئة مؤقتة، وليس مجلبة للأمن المأمول. وربما أن هذه التهدئة ورغم الصراخ بأن الاتفاق مع أميركا يسمح لإسرائيل بالرد على كل انتهاك له من الجانب اللبناني بشدة كبيرة، فإنه سيشكل قيدا على إسرائيل أشد من أي وقت مضى.
فانتهاك السيادة اللبنانية سيشكل في نظر آلية أو لجنة الرقابة انتهاكا للاتفاق. كما أن إسرائيل ليست حرة في التصرف أو تحديد الانتهاك إلا بعد الرجوع للجنة المراقبة. وربما أن الإنجاز الوحيد في الاتفاق، هو أنه سمح للقوات الإسرائيلية بالبقاء 60 يوما في مناطق توغلها المحدود قرب الحدود.
ولاقتصار إنجازات الاتفاق على هوامش يمكن أن يتباهى بها نتنياهو، اضطر لإعلان أن الاتفاق تم جراء اضطرارات بينها “حظر الذخائر” من جانب أميركا. وهذا ما استدعى ردا فوريا من جانب مسؤولين أميركيين يفندون فيه هذا الزعم ويشيرون إلى أن الحظر اقتصر على القنابل وزن ألفي رطل. وبدا واضحا من ردة فعل بعض المغالين في تأييد إسرائيل من أعضاء الكونغرس، أنهم شعروا بأن الاتفاق فرض على إسرائيل وربما بتأييد من الرئيس المقبل دونالد ترامب.
وقد كشفت “معاريف” صبيحة اليوم الأربعاء أن بين دوافع القبول باتفاق وقف النار الوضع الصعب للقوات الجوية الإسرائيلية. وأشارت إلى أن نتنياهو ذكر في تبريراته للقبول بالاتفاق، “الحاجة إلى تجديد مخزون الأسلحة والمعدات”.
وأشار المراسل العسكري للصحيفة، آفي أشكنازي، إلى أن “التحدي الأكبر الذي يواجه إسرائيل في اليوم التالي لوقف إطلاق النار ليس في لبنان، بل في الولايات المتحدة وألمانيا. تحتاج إسرائيل إلى استخدام قدرات الجيش الإسرائيلي في عمليات الشراء الضخمة لأنظمة الأسلحة والطائرات المقاتلة والمروحيات والدبابات والمدافع والصواريخ وأنواع مختلفة من الأسلحة”.
وفي نظر أشكنازي فإن “الوضع الأكثر خطورة الذي يجد الجيش الإسرائيلي نفسه فيه هو تشكيل المروحيات، مع التركيز على أسراب الأباتشي. وفي موضوع التسلح أيضًا، يقوم الجيش الإسرائيلي بمراقبة كمية القنابل جو-أرض بشكل مستمر. تراكمت لدى الطائرات المقاتلة التابعة للقوات الجوية آلاف ساعات الطيران لكل طائرة خلال الحرب، وهو ما يتجاوز نمط الحياة الذي تم التخطيط له مسبقًا – والذي تسبب في شيخوخة جميع الطائرات المقاتلة التابعة للقوة. وهذا سيجبر إسرائيل على المضي قدما في شراء أسراب جديدة مع التركيز على طائرات F15 وF35”.
وأوضح أشكنازي أن “جميع طائرات القوة الجوية المقاتلة قامت بآلاف ساعات الطيران في الحرب واستنزافها غدا كبيرا. الوضع الأكثر تعقيدًا هو أسراب Falcon F15 من الطراز الأقدم. وخلال الحرب، قدمت الولايات المتحدة بعض الطائرات المستعملة للقوات الجوية. هناك حاجة ملحة للمضي قدما في تسليم الطائرات التي تم طلبها في وقت متأخر بسبب نزوة وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي أصر على دراسة الحاجة إلى تجهيز الجيش بطائرات مقاتلة”.
ولكن ليست هذه هي المشكلة الوحيدة في الجيش إذ إن تعليقات القادة السابقين طوال الحرب كانت تتحدث عن افتقار الجيش لقوات برية كافية، واعتماده المبالغ فيه على سلاحي الجو والاستخبارات. ويتوقع أن يشهد الجيش الذي تبلور منذ ما يقرب من 3 عقود على نظرية “جيش صغير وذكي”، وأهمل الأسلحة البرية أن يعود إلى تجنيد أوسع للقوى البشرية، وأن يضاعف تقريبا سلاحي المدرعات والمدفعية.
عودة النازحين اللبنانيين إلى مدنهم وقراهم في جنوب لبنان بعد وقف إطلاق النار أربكت إسرائيل (الجزيرة)
“اتفاق مخز”
بعد بدء سريان اتفاق وقف النار تدفق اللبنانيون نحو قراهم المدمرة، غير مبالين بوجود الجيش الإسرائيلي ومخاطر القنابل غير المتفجرة. وشكلت هذه العودة إرباكا بالغا للإسرائيليين الذين رأوا فيها تعبيرا عن فهم مختلف للاتفاق.
وأعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية أنه في ساعات معدودة وقعت 5 حوادث لانتهاك الاتفاق، بما في ذلك اقتراب “مشتبه بهم” من قوات إسرائيلية ومن بوابة فاطمة قرب كفر كلا وفي قرية ميس الجبل، بل اقترب اللبنانيون من دبابات إسرائيلية، قرب الخيام وفي يارون وعيتا الشعب في القطاع الغربي. وبادر الجيش الإسرائيلي إلى إطلاق النار، بل واستخدم قذائف مدفعية بقصد الترهيب.
ولكن رئيس المجلس المحلي في مستوطنة المطلة، ديفيد أزولاي، أعلن أنه “قبل بضع دقائق، وصلت 8 مركبات تابعة لحزب الله ودراجة نارية إلى القرية كوسيلة لتفقد الأنقاض، وأطلق الجيش الإسرائيلي طلقة تحذيرية لإبعادهم”. وفي نظره “لم يتغير شيء منذ السابع من أكتوبر (/تشرين الأول). نعم، لا أصدق أن هذا حدث، هذا هو الاتفاق المخزي الذي أبرمته الحكومة الإسرائيلية. لسنا بحاجة إلى اتفاق. نحتاج إلى ذبحهم والقضاء عليهم مرة واحدة وإلى الأبد”.
ولكن الاتفاق مخز ليس فقط في نظر المستوطنين من سكان الشمال وإنما في نظر الكثير من المعلقين. فكتب بن كسبيت في “معاريف”: “بأي قدرٍ يريد بنيامين نتنياهو هذا الاتفاق كان يمكن أن نفهم هذا الصباح حين اندفعت أبواقه دفعة واحدة بصخب التشجيع، التفسير، التحليل والمقالات المنمقة عن “فضائل الاتفاق”.
وأشار إلى أنه “بعد الظهر غرد أحد المراسلين السياسيين عن معارضة شديدة في الجناح اليميني من الائتلاف لـ”اتفاق ديرمر”. أتفهمون؟ صحيح حتى الآن، إلى أن تتضح الصورة، فإن هذا “اتفاق ديرمر”. حذار أن يذكر نتنياهو. هذا سيكون اتفاق نتنياهو، في اللحظة التي نكون فيها واثقين من أنه نجح. وإذا لم ينجح الاتفاق لا سمح الله؟ إذن سجلوا: إنه ديرمر. رون ديرمر. إذا كان الفشل ذريعا، فترقبوا عنوانا في القناة 14 في الصيغة التالية: “ديرمر أخفى عن نتنياهو بنودا في الاتفاق”.
وخلص إلى أن “ما لا يمكن تفسيره هو حقيقة أن حكومة اليمين المطلق مستعدة لأن تغلق الجبهة الشمالية، التي يوجد فيها العدو القوي حقا، دون ترتيبات أمنية حقيقية، دون منطقة فاصلة ودون نصر مطلق، بينما الجبهة الجنوبية التي توجد في وضع أفضل بكثير مع عدو أضعف بكثير – هذه الجبهة تصر الحكومة على إبقائها”.
وشكّل عجز كسبيت عن تفسير سبب لجوء نتنياهو للاتفاق في لبنان حيث الجبهة القوية ورفضه الاتفاق مع غزة، الجبهة الأضعف والتي فيها أسرى إسرائيليون.
فقد طالبت هآرتس في افتتاحيتها بعنوان “فلنتوقف في غزة أيضا” بالإسراع إلى بلورة اتفاق مع غزة يعيد الأسرى. وأشارت إلى وجوب “الترحيب بالتهدئة المتوقعة في جبهة الشمال، بشكل يسمح لعودة السكان إلى هذا الإقليم وترميمه. أكثر من أي شيء آخر يدور حول الحديث عن مصلحة إسرائيلية. المخاوف من تعزز قوة حزب الله يجب أن تكون موجهة لزعماء إسرائيل على مدى السنين وعلى رأسهم نتنياهو، الذين لم يعملوا ضد تعاظم منظمة الإرهاب، لم يصروا على إنفاذ قرار 1701 وفضلوا شراء الهدوء مقابل الحكم”.
ورأت “هآرتس” أنه “محظور للاتفاق في الشمال أن يسمح باستمرار القتال في الجنوب. صحيح أن إسرائيل نجحت في أن تفرض قطع ارتباط الساحة من الشمال مع الساحة من الجنوب -“وحدة الساحات” الذي كان المبدأ الأعلى لإيران وحزب الله- لكن هذه الحقيقة لا ينبغي أن تعطي حقنة تشجيع لاستمرار الحرب في قطاع غزة، حيث زرعت إسرائيل الدمار، والخراب والموت بمستويات تاريخية”
وتابعت “كما أن، ولعله أكثر من أي شيء آخر، استمرار القتال في غزة معناه التخلي عن إعادة المخطوفين عمليا. 101 مخطوف إسرائيلي لا يزالون محتجزين في أيدي حماس، نحو نصفهم لا يزالون على قيد الحياة. ليس لهم وقت، وبالكاد هواء يوجد لهم”.
وهذا ما دعت إليه “يديعوت أحرونوت” أيضا حين كتبت سيما كدمون أنه “ليس لمعظم الجمهور ثقة برئيس الوزراء. أمس أيضا، في خطاب النصر الغريب الذي ألقاه، والذي بدأ بكلمات “وعدتكم بالنصر”، بدا وكأنه يؤمن بأنه أوفى بوعده، أو على الأقل سينجح في إقناعنا بهذا. أما هو فلا. فقد ترك الجمهور بلا جواب عن السؤال الأكثر حرجا وألما: لماذا ما يفعله هو في لبنان لا يفعله أيضا في غزة؟ لماذا يمكن العودة إلى لبنان إذا لزم الأمر، ولا يمكن وقف الحرب في غزة لأجل إعادة 101 مخطوف، عددهم آخذ في التناقص؟!”.
الجواب لهذا معروف: لأنه لا يريد. لأنه يخشى من كل الأسباب المحتملة: انهيار الائتلاف، فقدان قاعدته وأساسا فقدان الحكم عشية استئناف محاكمته. عندما تنشر دانييلا فايس وجوقتها المسيحانية بنسائها وأطفالها الخيام على حدود غزة وتنتظر الفرصة الأولى للاستيطان فيها، فإن رئيس الوزراء يفضل إعطاء لبنان مقابل غزة. حزب الله مقابل حماس. مخطوفون مقابل حفظ حكمه. نتنياهو، لمن لم يفهم بعد، تخلى عن المخطوفين. وبدلا منهم يسوق النصر على حزب الله”.
في كل حال يبدو أن الجميع بانتظار مرور الوقت لمعرفة إن كانت لهذا الاتفاق فرصة لأن ينفذ فعلا، وما إذا كان سيترك أثرا على الحرب ومجرياتها في قطاع غزة أم لا. ولكن حتى الآن وفي نظر كثيرين ورغم الدمار وشلالات الدم، فإن النتيجة هي لا منتصر ولا مهزوم.