البنوك والحرب.. هل تحولت الصراعات إلى استثمارات مربحة؟
بأقلام المحررين
لطالما كانت الحروب واحدة من أكثر المشاريع ربحية في تاريخ البشرية، على الرغم من التكاليف البشرية والاقتصادية الهائلة، وقد أدرك “الكارتل المصرفي الدولي” (شبكة معقدة من البنوك والمؤسسات المالية) منذ فترة طويلة أن الحروب ليست مجرد صراعات دموية بين الأمم، بل فرصة لتحقيق أرباح طائلة. فمن خلال استغلال الفوضى والتدمير، تجني هذه البنوك الأرباح الضخمة، بل وتساهم أحيانا في الدفع باتجاه نشوب الحروب من أجل تأمين مصالحها المالية.
في الولايات المتحدة، يُعد الدور الذي تلعبه البنوك في تمويل الحروب مثالا واضحا على هذا التداخل، حيث تقوم مؤسسات مالية كبيرة مثل “جي بي مورغان” و”بنك أوف أميركا” بتمويل الحكومة الأميركية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال الاحتياطي الفدرالي. وهذا النظام المالي يسمح لهذه البنوك بالحصول على السندات الحكومية، ومن ثم تحقيق أرباح من خلال الفوائد، وكأنها تطبع المال لحساب الحكومة الفدرالية. بحلول عام 2023، كان لدى الاحتياطي الفدرالي نحو 2.5 تريليون دولار من ديون الحكومة الفدرالية، وهو ما يظهر مدى التورط الكبير لهذه البنوك في تمويل الحروب والنفقات الحكومية.
تمويل الحروب.. من الملوك إلى البنوك المركزية
في العصور القديمة والوسطى، كان تمويل الحروب تحديا كبيرا، فالملوك الذين أرادوا خوض الحروب كانوا بحاجة إلى جمع الأموال من مصادر محدودة مثل الصاغة أو الطبقة النبيلة، الذين يملكون الذهب والفضة. هذا النمط التقليدي من التمويل كان يحد من قدرة الحكام على شن حروب طويلة أو واسعة النطاق، إذ إن الموارد كانت تنفد بسرعة. وفي كثير من الأحيان، كان هؤلاء الممولون يشترطون ضمانات معينة أو مكاسب من الأراضي والغنائم التي قد يحصل عليها الملك من الحرب.
ومع ذلك، بدأ هذا الوضع في التغير بشكل جذري أواخر القرن الـ17، عندما تم تأسيس بنك إنجلترا عام 1694، إذ كان هذا الحدث نقطة تحول في تاريخ تمويل الحروب، فلأول مرة، أصبح بإمكان الحكومات تمويل حروبها من خلال إصدار السندات، وجذب المستثمرين الذين كانوا مستعدين لتمويل الجهود العسكرية مقابل عائد مالي ثابت. هذا التحول الجذري سمح لبريطانيا بتمويل سلسلة من الحروب الطويلة في القرن الثامن عشر، بما في ذلك حرب الخلافة الإسبانية التي بدأت في عام 1701.
إمبراطورية روتشيلد.. تمويل الصراعات الكبرى
وإذا كان بنك إنجلترا قد بدأ عملية تمويل الحروب بشكل أكثر تنظيما، فإن عائلة روتشيلد أصبحت رمزا لهذه العملية خلال القرن الـ19. ماير أمشيل روتشيلد، الذي بدأ مسيرته صائغا وتاجرا في فرانكفورت بألمانيا، أسس أول بنك له في ستينيات القرن الـ18. ومع توسع أعماله، أرسل أبناءه الخمسة إلى مختلف العواصم الأوروبية، بما في ذلك باريس ولندن وفيينا ونابولي، ليقوموا بتأسيس فروع للعائلة في تلك المدن.
وفي أثناء الحروب النابليونية، أصبحت عائلة روتشيلد أحد أكبر ممولي الحروب في أوروبا. وكانت ذروة أعمالهم المصرفية في تلك الفترة عندما استخدموا ثروة الأمير الألماني وليام أمير هيس-كاسيل، الذي طلب من العائلة استثمار أمواله في سندات الحكومة البريطانية. لكن بدلا من ذلك، قام روتشيلد باستخدام هذه الأموال في تجارة الموارد الحربية وتحقيق أرباح كبيرة. ليس هذا فحسب، بل قامت العائلة بتمويل كلا الجانبين المتحاربين، مما ضمن لهم تحقيق الأرباح بغض النظر عن نتيجة الحرب.
وتبقى قصة ناثان روتشيلد في معركة واترلو عام 1815 واحدة من أكثر القصص إثارة للجدل في عالم المال. فوفقا لبعض الروايات، وصلت ناثان روتشيلد أخبار هزيمة نابليون قبل أي شخص آخر في لندن، فاستغل هذه المعلومات وبدأ ببيع السندات البريطانية، مما أثار الذعر بين المستثمرين الذين اعتقدوا أن بريطانيا خسرت المعركة، وحينما انخفضت الأسعار إلى أدنى مستوياتها، قام روتشيلد بشراء السندات مرة أخرى بأسعار زهيدة، ليحقق بذلك أرباحا هائلة عندما تأكد الجميع من انتصار بريطانيا في النهاية. وعلى الرغم من أن هذه القصة ربما بها مبالغة، فإنها ترمز إلى كيفية استغلال المصرفيين الأحداث العالمية لجني الأرباح.
الصعود الأميركي في مجال تمويل الحروب
بحلول القرن الـ20، أخذت المؤسسات المالية الأميركية دورا أكبر في تمويل الحروب. وكانت الحرب العالمية الأولى واحدة من أبرز الأمثلة على ذلك، حين تحولت الولايات المتحدة من دولة مدينة إلى دولة دائنة، فعندما بدأت الحرب تستنزف موارد بريطانيا وفرنسا، لجأت تلك الدول إلى وول ستريت للحصول على قروض. وقد لعب “جي بي مورغان” دورا محوريا في هذه العملية، ليس فقط بوصفه وسيطا ماليا، ولكن أيضا بوصفه موردا للموارد الحربية والسلع الأساسية.
وقد كان تأثير البنوك الأميركية في الحرب العالمية الأولى كبيرا لدرجة أن بعض المؤرخين يرون أن الرئيس وودرو ويلسون قد اضطر لدخول الحرب لحماية مصالح البنوك الأميركية. فقد كان هناك قلق من أنه إذا خسرت بريطانيا وفرنسا الحرب، فإنهما لن تتمكنا من سداد الديون المستحقة للبنوك الأميركية.
السيطرة على الرأي العام.. البنوك والإعلام
لم يقتصر تأثير البنوك على تمويل الحروب فقط، بل امتد أيضا إلى التحكم في الرأي العام والتلاعب به لضمان استمرار الصراعات. فخلال الحرب العالمية الأولى، استأجر “جي بي مورغان” 12 صحفيا بارزا لتحديد أكثر الصحف تأثيرا في الولايات المتحدة، ونجح في شراء 25 صحيفة رئيسية لضمان نشر وجهات نظر تدعم الحرب؛ هذا التحرك الإستراتيجي كان له دور كبير في التأثير على الرأي العام الأميركي لصالح الحرب.
وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت البنوك الأميركية والدولية متورطة في تمويل كلا جانبي الصراع. ويوثق كتاب “برج بازل” للكاتب آدم ليبور وكتاب “وول ستريت وصعود هتلر” للكاتب أنتوني سوتون كيف استمرت البنوك في تمويل ألمانيا النازية، وحتى تبادل المعلومات فيما بينها، بينما كانت الدول في حالة حرب.
من الحروب إلى الرفاهية.. ساحات المعارك الجديدة
ومع تراجع وتيرة الحروب الكبيرة خلال العقود الأخيرة، وجدت البنوك وسائل جديدة للحفاظ على أرباحها. ففي حقبة السبعينيات، ومع بداية العولمة، وجدت الحكومات الغربية نفسها في مواجهة “الحرب على الفقر”؛ هذه الحرب الجديدة، التي كانت تهدف إلى القضاء على الفقر وتحسين مستوى المعيشة، تطلبت مبالغ ضخمة من التمويل، مما وفر فرصة للبنوك لتمويل تلك المشاريع والاستمرار في تحقيق الأرباح.
وبدلا من الدمار الذي تخلفه الحروب التقليدية، وفرت “الحرب على الفقر” للبنوك فرصة لتحقيق أرباح طويلة الأجل من خلال تمويل الحكومات وضمان استمرارية تدفق الأموال.
وفي نهاية المطاف، يبقى شيء واحد واضح، وهو أن البنوك كانت -ولا تزال- الرابح الأكبر في الحروب والصراعات؛ سواء كان ذلك من خلال تمويل الجيوش، أو السيطرة على الرأي العام، أو توفير التمويل للمشاريع الكبرى، تظل البنوك المستفيد الرئيسي من أكبر معارك البشرية.
حتى مع ظهور التكنولوجيا والوعي المتزايد لدى الشعوب، تظل العلاقة بين البنوك والحروب قائمة، فما دامت هناك صراعات، سواء على أرض المعركة أو في ميادين السياسة والاقتصاد، ستظل البنوك تلعب دورها في تحقيق الأرباح والسلطة.