سياسة

كيف هزت حرب غزة صورة سانت باولي “اليساري المقاوم”؟

يعد “سانت باولي” -الوافد الجديد هذا الموسم على البوندسليغا- من بين أقدم الأندية في ألمانيا، إذ يعود تاريخ تأسيسه إلى عام 1910، ومع ذلك فإن شهرته ترددت أكثر خارج ملاعب كرة القدم، حيث عرف بالتزامه السياسي العلني بمناهضة العنصرية والفاشية والتمييز الجنسي ومناصرة قضايا المهاجرين واللاجئين.

ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتزايد أعداد الضحايا المدنيين الفلسطينيين وتفاقم الأزمة الإنسانية، تعرضت سمعة هذا النادي اليساري لضربة قوية بين مؤيديه في العالم.

حي المهمشين

بالعودة إلى التاريخ، تعد منطقة سانت باولي ذات هوية يسارية مقاومة ومتمردة منذ القدم. فالحي الواقع على الجزء الشمالي من ميناء هامبورغ كان معقلا للمهمشين والفقراء والمرضى والحرفيين وكل الأنشطة الصناعية الملوثة، مثل مصنع التقطير أو مزرعة الطاعون التي أحدثت أثناء تفشي وباء الطاعون بالبلاد.

ولطالما عرف حي سانت باولي بتواتر الاضطرابات الاجتماعية بما فيها تلك التي رافقت الثورة الألمانية عام 1848. ولم يكن متاحا لسكانه عبور الأبواب المقفلة لهامبورغ دون دفع رسوم.

وفي القرن العشرين، استقطب الحي العائلات المهاجرة التي ظلت تعيش هناك لأجيال متتالية جنبا إلى جنب مع المتقاعدين والطلبة ومتلقي الرعاية الاجتماعية والعاملين المستقلين بقطاع الثقافة والفن، ليشكلوا جميعا مزيجا من الرواسب الاجتماعية والثقافية المختلطة.

وقد بدأ أنصار الفريق يلفتون انتباه العالم في ثمانينيات القرن عندما بلغ النادي الآخر بالمدينة “إف سي هامبورغ” ذروة المجد مع جيل ذهبي بحصوله على دوري أبطال أوروبا، ولكن مشجعي سانت باولي -وعلى عكس موجة المشجعين اليمنيين المتطرفين التي تفشت بملاعب أوروبا تلك الحقبة- اختاروا الطريق المعاكس في المدرجات لإعلاء القيم اليسارية وتحويل لعبة الكرة إلى عنصر معزز للاندماج وليس العكس.

ومن العلامات الفارقة في تاريخ النادي مطالبة جماهيره بتغيير اسم ملعبه “فيلهلم كوخ ستاديوم” عام 1988 بسبب انتماء الرجل السياسي فيلهلم كوخ في الماضي لحزب العمال الاشتراكي القومي النازي (NSDAP) اليميني المتطرف. وأصبح الملعب بعد ذلك تحت اسم “ميلرنتور”.

ميلرنتور الملعب الرئيسي لنادي إف سي سانت باولي (شترستوك)

حاضنة للمهاجرين

حتى وقت قريب، كان سانت باولي ومشجعيه إحدى أيقونات الأندية الأوروبية التي تناضل ضد الكرة التجارية، وكانت إحدى مبادراته اللافتة إطلاقه نادي إف سي لامبيدوزا عام 2014 عبر حملة تبرعات من المشجعين الملتزمين، في خطوة رمزية لدعم للمدينة التي تمثل خط الواجهة الأول لموجات التدفق للمهاجرين واللاجئين، والذين يحط أعداد منهم نهاية المطاف في مدينة هامبورغ.

وبالنسبة لسانت باولي، فإن إف سي لامبيدوزا ليس مجرد ناد للكرة فهو حاضنة للمهاجرين واللاجئين الذين عاشوا قصصا إنسانية معقدة وملهمة في رحلاتهم المأساوية، حيث يوفر لهم النادي دورات في تعلم اللغة والاندماج. وبفضل التزامه بالقضايا الإنسانية والاجتماعية نجح النادي في أن يكون ملهما للكثير من روابط المشجعين.

ومع بداية الألفية أطلق عدد كبير من نوادي المعجبين بسانت باولي في الخارج، مثل بريطانيا واليونان وكتالونيا وإيطاليا ونيويورك وكندا والأرجنتين وعشرات البلدان الأخرى. وتشير إحصائية إلى وجود حوالي 500 رابطة من روابط المشجعين في العالم التي تتشارك مع سانت باولي نفس القيم.

ومع أن المشجعين المنتشرين في المدارج بأقمصة القرصان يرفعون بكل فخر شعار “لا يوجد إنسان غير قانوني” إلا أن هذا الشعار تعرض لشرخ كبير عندما وضع على المحك أثناء سقوط الآلاف من الأطفال والنساء تحت الآلة العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة.

معايير مزدوجة

ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شهد هذا الانتشار الدولي -غير المسبوق لناد من الدرجة الثانية- انحسارا متسارعا تعرضت معه صورة الجيب اليساري المتمرد على خارطة الكرة لأضرار بالغة قد لا يكون متاحا رتقها مستقبلا.

ويوضح محمد أمين الكناني المتخصص الإعلامي في شؤون الرياضة بألمانيا بمؤسسة “سكاي سبورت” -في حديثه مع الجزيرة نت- أن صوت الألتراس بألمانيا لا يختلف في العموم عن صوت الساسة في هذه النقطة بالذات، والسبب في ذلك هو الربط الوثيق والمتعمد لكل الانتقادات التي توجه لدولة الاحتلال بمعاداة السامية وتعريض وجود دولة إسرائيل للخطر.

وتابع في تحليله “لم تظهر هذه المجموعات، ولا سيما ألتراس سانت باولي التي تدعي النضال من أجل الأقليات والحريات، مواقف مشرفة كتلك التي صدرت عن روابط مشجعي السلتيك ومجموعات اللواء الأخضر الداعمة لفلسطين. ولا يستبعد الكناني وجود ضغوط سياسية ألمانية على مواقف الألتراس ومن بينها خصوصا موقف روابط مشجعي سانت باولي.

وسواء كان ذلك صحيحا أم لا، يعتبر الكناني أن مصداقية روابط مشجعي سانت باولي تلقت في كل الحالات ضربة في مقتل على مدى نحو عام.

تعاطف مع قتلى إسرائيل

خلال طوفان الأقصى، أصدر النادي الألماني بيانا أعلن من خلاله تعاطفه مع القتلى الإسرائيليين، وأعلن رفضه لهذه العملية مرسلا في نفس الوقت بتعازيه إلى نادي هابويل تل أبيب الذي تربطه به صداقة.

ولكن البيان لم يمر مرور الكرام وكان منطلقا لإحداث انشقاقات في صفوف نوادي المشجعين، والسبب في ذلك أن سانت باولي أغمض عينيه عما لحق بالمدنيين الفلسطينيين تحت القصف الإسرائيلي المكثف لاحقا على مدى عدة أشهر لقطاع غزة، ولم يصدر بشأنهم أي بيان يشجب فيه عمليات الفتل والعقاب الجماعي.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي 12 أكتوبر/تشرين الأول تلقت المجموعات المؤيدة لفلسطين -على الموقع الخاص للمجلس المتحدث باسم روابط المشجعين- تحذيرا جديدا من إبداء التعاطف مع حركة حماس أو تبرير هجومها، واعتبرت التعليقات بهذا الاتجاه أنها قد “تجاوزت الحدود”.

وكان البيان بمثابة كعب أخيل في نادي روابط مشجعي سانت باولي، حيث أعلنت العديد من الروابط الأجانب حل نفسها لاحقا، من بينها مجموعات من ليفربول وخانيا وغلاسكو وكتالونيا.

HAMBURG, GERMANY - MAY 12: St. Pauli fans wait on the sideline to invade the pitch to celebrate their promotion to the Bundesliga minutes before the final whistle during the Second Bundesliga match between FC St. Pauli and VfL Osnabrück at Millerntor Stadium on May 12, 2024 in Hamburg, Germany. (Photo by Selim Sudheimer/Getty Images)
سانت باولي ومشجعوه تعرضوا للنقد لإغماض أعينهم عما لحق بالمدنيين الفلسطينيين تحت القصف الإسرائيلي (غيتي)

رسالة ألتراس سلتيك

وتواصلت ردود الفعل مع إعلان مجموعة مشجعي بلباو عبر بيان صحفي الوقف الفوري لأنشطتها المرتبطة بسانت باولي، بسبب تبني النادي الألماني “رواية واحدة للأحداث، وتجاهل القتل العشوائي للمدنيين والفصل العنصري والاحتلال للأراضي الفلسطينية”. وأردف المشجعون في بيانهم “توصلنا إلى نتيجة مفادها أننا بالتأكيد لسنا في مكاننا”.

وألقت أزمة النوادي بظلالها على الصداقة القوية بين ألتراس سانت باولي ونظرائهم مشجعي سلتيك الأسكتلندي المعروفين بمناهضتهم للاستعمار وتعاطفهم مع الفلسطينيين. ووصل الأمر حد التراشق العلني بالشعارات بين المشجعين.

ونهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023، عرض مدرج لمشجعي سانت باولي رسالة “من غلاسكو إلى غزة: حارب معاداة السامية، حرر فلسطين من حماس”. وجاء الرد سريعا من اللواء الأخضر برفع لافتة تقول “اللعنة على سانت باولي.. حرر هامبورغ من محبي موسيقى الجاز”.

وبعد ذلك لم يتأخر اعلان “نادي مشجعي إف سي سانت باولي في غلاسكو” الذي تأسس عام 2016 وأعلن حل نفسه في 11 يناير/كانون الثاني 2024.

وعلق موقع “هابورغ مورغن بوست” -على الأزمة المحيطة بالنادي- بأنه بات من الواضح أن مشاهد الود بين روابط المشجعين أصبحت أمام معضلة، فبقدر ما كان تموقع سانت باولي واضحا بقدر ما كان موقف الآخر مناقضا تماما. وحتى في شبكة “أليرتا” التي ينتمي إليها ألتراس سانت باولي، تميل العديد من مجموعات المشجعين للوقوف إلى جانب معارضي إسرائيل.

وقد لفت موقع إنفو ليبرتار -المتخصص بالصحافة المقاومة والمناهضة للفاشية والداعم للصحافة البديلة- إلى أزمة هوية داخل سانت باولي، فمن جهة يقدم النادي نفسه كقلعة اليسار الراديكالي الألماني “المناهض لألمانيا” وللقومية الألمانية، وهي موجة ظهرت عقب توحيد شطري ألمانيا بداية تسعينيات القرن الماضي. ومن جهة ثانية لا يتردد في الدفاع عن إسرائيل وممارسات الاستعمار والاستيطان فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وكتب نادي مشجعي “إم إف سي 1871” الباريسي تعليقا على هذه المعضلة “إنهم يعانون من قراءة ألمانية مركزية للاستعمار الإسرائيلي. ويؤدي هذا إلى موقف رجعي وعنصري، النتيجة المنطقية للدعم المستمر لدولة إمبريالية ويمينية متطرفة”.

وفي حين يميل أغلب مشجعي سانت باولي داخل ألمانيا في الغالب إلى تبني موقف ناديهم، فإن المشجعين خارج البلاد يجدون صعوبة في قبول فكرة أن النادي لا يبدي توازنا موضوعيا في التعاطف بنفس القدر مع الضحايا الفلسطينيين.

وجاء إعلان مشترك وقعته 13 مجموعة من الروابط العالمية المشجعة للنادي قالوا فيه إنهم “يتفهمون موقف اليسار الحساس والحذر تجاه إسرائيل” لكنهم في نفس الوقت عبروا عن شعورهم بالحزن لأن النادي لم يتخذ موقفاً بشأن المدنيين الفلسطينيين في غزة التي تعيش تحت الحصار منذ 14 عاماً، ودعوا إلى “إيجاد حل دائم يضمن الحرية والتعايش السلمي بين إسرائيل وفلسطين”.

ألمانيا تدافع عن إسرائيل

وعلى الرغم من انقضاء نحو عام على العدوان الإسرائيلي على غزة، فإن ألمانيا فشلت في الدفع بحل سياسي ينهي معاناة المدنيين في غزة والقتل المستمر، وكانت على العكس من ذلك الدولة الأكثر عرضة للانتقادات الدولية في تعاطيها مع الوضع الكارثي للفلسطينيين.

وكان الإعلامي الألماني المتخصص بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كيرستن كنيب قال للجزيرة نت -خلال الأسابيع الأولى من العدوان الإسرائيلي- إن بلاده تشعر أن عليها دينا تاريخيا وواجبا في حماية إسرائيل، بل إن “أمن إسرائيل ووجودها سبب وجود الدولة في ألمانيا، لذا فهما يمثلان معا جوهر المصالح الألمانية”.

وفي هذا السياق، يعترف رئيس سانت باولي أوكي غوتليش في إحدى تصريحاته بأن “هناك وجهة نظر ألمانية بشأن معاداة السامية، بسبب تاريخ ألمانيا النازي، وهو ما يبرر الدفاع عن الشعب الإسرائيلي ودولته” لكنه يشير في نفس الوقت إلى أن النادي يعارض السياسات “المعادية للإنسان” و”اليمين المتطرف” لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وأشار أيضا إلى أن سانت باولي “يساعد سكان غزة من خلال التبرع للبرامج الإنسانية” ويذهب إلى حد القول “لو كنت سياسيا، كنت سأقاتل من أجل حل الدولتين، لكن لست أنا من يقرر. وهنا نحن نصل إلى أقصى حدودنا. وفي بعض الأحيان لا يمكننا أن نكون سوى نادي كرة قدم”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى