سياسة

هنا إقليم الحوز.. هل تصدقون أن عاما مر على زلزال القرن؟

إقليم الحوز- بمجرد أن غادرنا مدينة مراكش وتلقفتنا الطريق المؤدية إلى إقليم الحوز، قابلتنا هناك في الأفق لوحة من سحاب يعلوها السواد غطت واجهة جبال الأطلس البعيدة، وكأنها تعكس مشاعر سكان هذه الجبال بالتزامن مع الذكرى الأولى لما وصف بأنه زلزال القرن الذي ضرب بشدة هذه المناطق في مثل هذا اليوم منذ عام مضى.

مرت نحو 5 ساعات ونحن بين أحضان هذه الطريق الجبلية الخطرة الضيقة القاسية، ونحن نوزع أنظارنا تارة بين الجبال نراقب أحجارها المخيفة التي قد تفاجئك بالسقوط في أية لحظة، وبين ذلك القاع السحيق هنالك في أسفل هذه السلسلة الجبلية المرعبة.

“المشهد نفسه عشناه العام الماضي، لكن هذا العام الوضع أخطر بكثير”، يشرح مرافقي، ونحن نتابع معا مشاهد السيول وهي تجرف الأحجار والأشجار وكل ما تلقاه في طريقها.

المطر مع الرياح العاصفة تسبب في انهيار أحجار كثيرة بالطريقة الجبلية لإقليم الحوز (الجزيرة)

الآن أخطر

العام الماضي كان أمام كل من يزور منطقة الحوز خطر الهزات الارتدادية واحتمال سقوط الأحجار الضخمة من أعالي الجبال، أما هذا العام فقد أضيف لتلك الأخطار الأمطار العاصفة التي تغمر المنطقة منذ أيام، وتسببت في فيضانات ببعض المناطق القريبة.

الاتصالات تأتي محذرة من مخاطر تلك الأمطار، وموصية باتخاذ كل وسائل الحيطة، وفي مقدمتها تأجيل السفر إلى عمق الحوز إلى يوم تكون فيه الطبيعة مبتسمة هادئة.

لكن هيهات، فاليوم يتزامن مع مرور عام كامل على تلك الليلة التي اهتزت فيها الأرض مثلما لم تهتز من قبل، وبلغت شدة زلزالها 7.2 درجات على مقياس ريختر، وكان مركزه قرية إغيل -في أقصى إقليم الحوز جنوب غربي مراكش- على عمق 8 كيلومترات، ولابد أن نعيش هذه الذكرى الحزينة مع الناس الطيبين المنتشرين عبر ربوع هذه الجبال الشاهقة.

نعم، هدفنا أن نصل إلى عين الزلزال إغيل، التي تخبرنا خرائط غوغل هذه المرة -ونحن بمدخل مراكش- أنه تفصلنا عنها مسافة 114 كيلومترا عبر ما وصفها التطبيق بأنها “أسرع طريق” وأنه تكفينا لقطعها ساعتان و52 دقيقة!.

لكن تجربة العام الماضي علمتنا أن دقة غوغل -على الأقل في مثل هذه المناطق النائية- لا تكاد تتجاوز شاشة الهاتف.

وكما توقعنا، قضينا أكثر من 5 ساعات في تلك الطريق المخيفة، ولم نصل بعد إلى إغيل. مررنا بكل البلدات والقرى التي احتضنتنا قبل عام، تحناوت، إسني، ماريغا، ويرغان، إمكدال، إيجوكاك، وتلك الدواوير المختلفة الأسماء والصور، ولم يلح شبح إغيل بعد.

الحياة تتوقف تماما عندما يهطل المطر بهذه القوة بإقليم الحوز الذي يعاني منذ عام (الجزيرة)

أمطار عاصفة

كان الجو هادئا عندما دخلنا إلى منطقة الحوز، ثم سرعان ما بدأ السحاب يتراكم بعضه فوق بعض ويزداد اسودادا، وبعد نحو ساعة بدأت قطرات الغيث الأولى تهطل من السماء باردة خفيفة، ثم مع مرور الوقت تحولت إلى أمطار عاصفة عنيفة.

كل المخاوف كانت مركزة على الأحجار التي تنزلق من أعالي الجبال المحيطة، وما أكثرها هذا اليوم. والسيول في الأسفل تنبئ بسقوط أمطار قوية في مناطق أخرى وها هي تسوق بعنف كل ما تجده في طريقها غير آبهة بنظرات الخوف في عيون شاخصة خائفة.

وعلى عكس مثل هذا اليوم من العام الماضي، نحن الآن لوحدنا تقريبا في هذه الطريق الجبلية المخيفة، التي تجبرك -مع هذه الأمطار العاصفة والسيول المنتشرة- على التزام الصمت احتراما، والقلب يلهج بالدعاء أن يلطف المولى براكبيْ هذه السيارة التي تبدو كنقطة تائهة وهي تسير بين الجبال الشاهقة في هذه الأجواء الصعبة.

كلما وصلنا إلى بلدة، نسأل أصحابها، فيجيبون بدارجة مغربية تغلب عليها اللكنة الأمازيغية الجميلة على أسئلتنا، ويختمون حديثهم بنصيحة مضمونها واحد: تجنبوا الجبل في هذا اليوم، الأحجار تتساقط وقد ينقطع بكم السبيل في أحد هذه الجبال في أي لحظة.

القرويون احتموا داخل خيامهم من الأمطار القوية (الجزيرة)

لا لخفي حنين

“لم نقطع كل هذه المسافة حتى نرجع أدراجنا بخفي حنين”، نتوافق أنا وصديقي السائق، وكأننا رزقنا بعضا من شجاعة لعلها من بركات هذه الأمطار القوية الحديثة عهد برحمات السماء.

واصلنا طريقنا باتجاه عين الزلزال إغيل، ونحن نراقب شاشة الهاتف وتطبيق تحديد المواقع عندما نتمكن من الارتباط بشبكة الإنترنت، إذ كثيرا ما تنقطع هذه الشبكة في أعالي هذه الجبال في أقصى لحظات حاجتنا إليها.

وصلنا إلى بلدة إيجوكاك (نحو 95 كيلومترا جنوب غربي مراكش) شبه الخالية، وأخبرنا بعض السكان هناك أنه لم يعد يفصلنا عن إغيل في أعالي الجبل سوى نحو 20 كيلومترا!.

في الطريق المعبدة فإن 20 كيلومترا لا تساوي شيئا، وفي الطريق العادية تساوي بعض الشيء، أما في مثل هذه الطريق الجبلية القاسية فهي تعني الشيء الكثير.

بعد نحو 5 كيلومترات من القيادة الهادئة الحذرة، وصلنا إلى بلدة تلات نيعقوب -التي كانت إحدى أكثر المناطق تضررا من زلزال القرن، حيث دُمرت بشكل شبه كامل- ففوجئنا بأحد السكان المحليين وهو يخبرنا بأننا وسط مركز البلدة!.

قبل عام، كانت البيوت والمتاجر مهدمة وشبه مهدمة تغطي جانبي الطريق في هذا المكان بالضبط، أما الآن فالأفق ممتد، والعين تنظر مباشرة إلى الأشجار والجبال هناك وهنالك.

لقد جُمع الهدم، وألقي بعيدا، وبات مركز تلات نيعقوب خاويا على عروشه، وتحيط بجنباته عربات مواطنين بسطاء يبيعون فناجين القهوة، وما تيسر من بضائع استهلاكية بسيطة.

نصيحة واحدة كان يقدمها لنا القرويون الذين التقيناهم بإقليم الحوز: تجنبوا الجبل في هذا الجو العاصف (الجزيرة)

نصيحة متكررة

لكن هدفنا، إغيل، ما يزال بعيدا بنحو 15 كيلومترا بحسب محدثينا، إذ كلما وصلنا إلى دوار (مدشر) بسيط سألنا عن المسافة وعن أحوال الطريق، والنصيحة واحدة ومتكررة: تجنبوا الجبل في هذه الأجواء الغاضبة.

رصيدنا من الشجاعة ما يزال كافيا، لدرجة أصررنا فيها على مواصلة الطريق، لكن مع مراقبة الأوضاع والاستعداد لاتخاذ قرار العودة في أي لحظة، وكان خفْتُ شدة هطول المطر من حين لآخر يضيف إلى خزان الشجاعة لدينا رصيدا جديدا.

في دوار أمزوزيت، على بعد نحو 8 كيلومترات من عين الزلزال، صادفنا في طريقنا سي محماد، أحد سكان الدوار متوجها إلى مكان قريب، فتطوع لمرافقتنا إلى دوار أمرزغان، وهو أقرب نقطة إلى إغيل بعد أن حذرنا بشدة من الذهاب إلى عين الزلزال في هذا الجو العاصف، ونحن لسنا من أبناء المنطقة، ولا نعرف ملامح غضب هذه الجبال الشاهقة في مثل هذه الأجواء الماطرة.

لم نكد نقطع سوى أقل من كيلومترين، حتى ازداد عنف هطول الأمطار، وعلت زجاج السيارة مسحة من الضباب الكثيف غطت الطريق أمامنا، وجعلت رصيدنا من الشجاعة يصل إلى الحضيض، ورضينا من إغيل بالإياب بعد طول مقاومة.

الأمطار العاصفة غطت الطريق أمامنا فرجعنا أدراجنا (الجزيرة)

عودوا.. فعدنا

الجو أظلم فجأة، وخيوط الأمطار تسير بشكل أفقي عنيف بسبب الرياح القوية، وبدت لنا السيول الصغيرة تنهمر من أعالي الجبل المحيط بنا، فأصدر من تطوع لمرافقتنا ما يشبه الأمر بالعودة، وكان قرارنا بالقبول أسرع من الأمر الذي سمعناه لهول ما رأينا، ووجوهنا واجمة لأننا لم نستطع الوصول إلى هدفنا.

عين الزلزال إغيل هناك، على بعد كيلومترات قليلة، ولولا هذه الجبال لكانت في مرآى أعيننا، وها نحن نعود أدراجنا دون أن نعيش تفاصيل هذه الذكرى الحزينة مع ما تبقى من أهلها الطيبين.

لم تهدأ الأمطار في طريق عودتنا، بل ازدادت قوة وعنفا، وملأت الطريق أحجار صغيرة وكبيرة لم نرها خلال رحلة مجيئنا، ومن حين لآخر تبدو أمامنا سيول صغيرة تتقدم في عنف بعد أن وجدت لها من بين فجاج الجبال منفذا محاولة أن تقطع علينا هذا الطريق الصعب.

وعند اقترابنا من تلات نيعقوب، فوجئنا بجرافة ضخمة تفتح الطريق الذي قطعته السيول وملأته بالأتربة والأحجار فجأة وخلال لحظات معدودة، وهو الطريق الذي كان سالكا خلال مجيئنا إلى هذا المكان.

في هذه البلدة التي تبدو وكأنها فرغت من سكانها نبهنا سي حسن إلى أن عجلة السيارة الخلفية أصيبت بأضرار بسبب الأحجار الصغيرة الحادة المتساقطة من الجبل، ولحسن الحظ كان محل بسيط لإصلاح العجلات على مقربة منا، فاستخرج العامل البسيط رضوان 3 أحجار صغيرة مسننة من العجلة، وقد انقضت عليها كوحوش صغيرة كاسرة عند مرورنا فوقها.

لا أحد ينسى

لطف القدر بنا عندما لقينا سي حسن بتلات نيعقوب، وهو من سكان إغيل، وحكى لنا تفاصيل الرعب الذي عاشه ما تبقى من السكان هناك فجرا عندما فاجأتهم أمطار عاصفة جعلتهم يهربون من خيامهم إلى الخارج، وقد أعادت إليهم تلك العاصفة الرعدية القوية ذكرى الزلزال العنيف الذي ضرب قبل عام.

“لا أحد يستطيع نسيان ما جرى في الثامن من سبتمبر/أيلول، الزلزال تغلغل في قلوبنا وكياننا كله، والعاصفة فقط عزفت بخفة ورشاقة على وتر ما يزال جرحا نازفا”، يشرح لنا سي حسن، مضيفا أن سكان الجبل ما يزالون يشعرون بهزات أرضية خفيفة آخرها كان قبل يومين.

وهو ما يتوافق مع تصريحات مدير المعهد الوطني للجيوفيزياء، ناصر جبور، لوسائل إعلام محلية أن أكثر من 10 آلاف هزة أرضية ارتدادية سجلت خلال الشهور الماضية، وأنه من المنتظر استمرارها لشهور قادمة، وللألطاف الإلهية درجة شدتها خفيفة.

وقال لنا سي حسن إنه لم يستطع الوصول إلى أسرته في إغيل منذ عشرة أيام، وها هو في تلات نيعقوب يجالس بعض الرفاق يناقشون حياتهم التي مرت بتفاصيل مثيرة خلال عام كامل.

أما كيف قضوا هذا العام، ولماذا ما يزال يتحدث عن خيام، وعن ظروف عيش صعبة، فتلك قصة أخرى تستحق أن تروى لوحدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى