تاريخ وهوية.. المسكن في عمارة الأحساء التراثية
رحلة عمرها 35 عاما قضاها الكاتب والباحث السعودي سعيد عبد الله الوايل، مع العمارة التراثية بمنطقة الخليج والجزيرة العربية، يسافر من بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى أخرى، باحثا وموثقا وحارسا لتراث غالٍ يستحق العناية والاهتمام.
قدم “الوايل” خلال تلك الرحلة المتواصلة حتى اليوم، عددا كبيرا من البحوث والإصدارات التي أثرت بالمكتبة العربية، ووفرت للباحثين العرب المهتمين بهذا المجال مادة غنية ومهمة، كان أولها كتاب “الأبواب والنقوش الخشبية في عمارة الشارقة التقليدية”.
وفي السنوات العشر الأخيرة، استطاع الباحث إنجاز مشروع حفظ وتوثیق حرفة التجارة وحرفة البناء التقليدي وما يرتبط بها من صناعة الأبواب والنقوش الخشبية والجصية التقليدية في جميع مناطق الخليج العربي.
المسكن الأحسائي
صدر لـ “الوايل” حديثا في مجال العمارة وجمالياتها وتاريخها بالخليج والجزيرة العربية كتابه “المسكن في عمارة الأحساء التُراثية: تاريخ وهوية”. وهذا ضمن سلسلة من الكتب والأبحاث التي قدمها المؤلف لتكون بمثابة موسوعة للعمارة التاريخية في الأحساء، سعى فيها لتوثيق ورصد التراث العمراني المحلي الذي عمل من أجله معظم فترات حياته.
وقد اعتمد في جمع المعلومات التي تضمنتها فصول كتابه على البحث الميداني المعتمد على الخبرة الميدانية التي اكتسبها في مجال توثيق المباني التراثية وعناصرها المختلفة، والزيارات الميدانية لكل مناطق الدراسة، وما قام به من تصوير وتوثيق ومقابلات وما حصل عليه من وثائق على مدار 35 عاما مضت.
وفي كتابه الجديد المكون من 6 فصول، يتناول “الوايل” أهم المناطق التاريخية في الأحساء، موضحا تاريخ العمارة فيها، والعوامل التراثية بها، كما يُقدم نماذج للبيت الأحسائي التقليدي مثل بيت البيعة، وبيت النجيدي، وبيت الخليفة بالمبرز، وغيرها.
وتمتد فصول الكتاب لتشمل دراسة كل ما يتعلق بالعمارة السكنية التاريخية في الأحساء، من مواد البناء وأساليب العمل والطرز الفنية والمعمارية والزخرفية، إضافة لدراسة الأثاث المستخدم في البيت الأحسائي، مع توضيح الفروق بين مسكن القرية والمدينة.
ويأخذنا الكتاب في رحلة لمعرفة المباني التاريخية وعمارتها بمختلف أشكالها، باعتبارها أهم جوانب الحضارة عند مختلف الشعوب، وتكمن أهمية دراستها في كونها من الأولويات التي تقوم عليها برامج الحفاظ العمراني، التي تمهد لعمليات التوثيق والترميم والإدراج في منظومة الحياة العامة في العصر الحديث.
وتأتي الدراسات التي احتوى عليها الكتاب، والتي توزعت على فصوله الستة، لتسد الثغرة الناجمة عن قلة البحوث في هذا المجال، إذ إن العمارة السكنية التراثية الأحسائية -بحسب الكتاب- إرث ثقافي عظيم، أبدعه فكر وعقول الآباء والأجداد الذين عملوا على حفظ هذا الموروث الثقافي وتواصله عبر العصور، نجد أن من واجبنا نقله بكل أمانة للأجيال القادمة.
وللباحث أيضا مجموعة من الدراسات والمقالات المنشورة والمؤلفات التي تهتم بالعمارة التاريخية والنقوش التراثية في الخليج العربي، من بينها: الأبواب والنقوش الخشبية الإسلامية في المباني التاريخية في الخليج العربي، والنقوش الجصية الإحسائية، وأبواب دبي التاريخية وزخارفها.
العمارة الإحسائية
ولعل من أهم ما يُميز العمارة السكنية أنها تعكس هوية المجتمع الثقافية والتاريخية وتتواءم مع حاجاته الروحية والمادية، فالارتباط بين المسكن وأسلوب معيشة الأسرة والحياة الاجتماعية استوقف الكثير من المعماريين، منهم المعماري حسن فتحي الذي يقول “كل شعب ممن أنتج معمارا، يطور أشكاله التي يفضلها، والتي تخص هذا الشعب مثلما تخصه لغته أو ملبسه، أو فنونه الشعبية. وأن لمظهر البناء تأثيرا عميقا في سكانه، وبالتالي يعبر عن شخصية الإنسان ومنزلته مع التفاصيل الأخرى لفرديته كما يتكيف حسب حاجاته الاقتصادية وبالتالي تتخذ المباني شكل المجتمع بما له من أبعاد كثيرة”.
ووفقا لفصول وصفحات الكتاب، فإنه على اختلاف البيئات والأنماط المعمارية التي حفلت بها العمارة التاريخية في المملكة العربية السعودية، اتسمت العمارة التراثية الأحسائية بالكثير من جوانب التميز والإبداع، عززتها مهارة البنائين الأحسائيين وإبداعاتهم، وهو ما يعكس مرجعياتهم الثقافية، حيث أكدت الدراسات الآثارية والتاريخية أن البناء في معظم المدن أو القرى قام على أنقاض مبان أقدم منها وهو ما يوحي بانتقال أنماط قديمة سابقة وتواصلها، مما يدل على أن طرز العمارة السكنية الأحسائية ضمن مساقها التاريخي نموذج سبق كل مناطق الخليج، وكان له تأثيره الواضح في المناطق المجاورة من خلال عدة عوامل أهمها انتقال البنائين الأحسائيين للعمل في مناطق الخليج.
وكما أورد مؤلف الكتاب، فإن للتغيرات السياسية التي مرت بها الأحساء تأثيرها في تطور الأنماط والطرز المعمارية وحركة البناء، وبخاصة عمارة المساكن، حيث مرت المنطقة بفترات تاريخية مستقرة أحيانا، ومضطربة أحيانا أخرى، وهو ما ألقى بظلاله على تطور حركة البناء والعمران.
يُذكر أن منطقة الأحساء السعودية، تمتد جذورها التاريخية لآلاف السنين، وتُعد من أقدم المستعمرات البشرية بالجزيرة العربية، حيث سكنها الإنسان قبل قرابة 3 آلاف عام، فقد عُرفت منذ أمد بعيد بوفرة المياه بها وخصوبة أراضيها.
وتضم الأحساء بين جنباتها 40 موقعا أثريا بينها 9 مواقع نجحت السلطات السعودية في تسجيلها على لائحة التراث العالمي بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، وتتميز المنطقة بعمارتها التراثية الفريدة التي جذبت أعين المستشرقين والباحثين وعُشاق العمارة التقليدية بالمملكة والمنطقة العربية والعالم.