فرانتشيسكا بوكا الدقر: هل يستطيع الإسلام الإيطالي أن يتكلم؟
لم يكن للتصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني نائب رئيسة الوزراء أن تمر مرور الكرام على خلفية النقاش الأخير المحتدم حول إصلاحات قانون الجنسية، إذ قال تاياني لصحيفة الميساجيرو بتاريخ 15 أغسطس/آب الماضي: “إن كان الشخص مواطنا إيطاليا وفقا للقانون، فهو إيطالي مثله مثل غيره، أيا كانت أصوله أو مظهره الخارجي. لا يوجد إيطاليون من الدرجة الأولى وآخرون من الدرجة الثانية. أنا نفسي لقب عائلتي عربي (لقبه يُنطق تاياني، في حين أن النقل الحرفي للكلمة تيجاني)؛ يعود على الأرجح لمهندس معماري وصل إلى إيطاليا قادما من شمال أفريقيا في القرن الـ15. والتيجانية هي تيار روحي صوفي في الإسلام. كم عدد الإيطاليين الذين لديهم أصول قصيّة لا يعرفون عنها شيئا تنحدر من أنحاء أخرى من العالم؟ نحن بحاجة لمعرفة تاريخنا والتحلي بالموضوعية والواقعية وبُعد النظر”.
وتعليقا على هذه التصريحات، تساءل بييركاميللو فالاسكا رئيس تحرير مجلة سترادي عبر منصة إكس ساخرا: “حسنا، تاياني يطالب بالجذور اليهودية المسيحية الإسلامية لأوروبا. ولكن بعيدا عن المزاح، فلنر إلى أي مدى سيذهبون بعيدا بهذه الدعوة”.
وصيغة الجمع في التعليق تعود إلى اليمين الإيطالي، إذ يغمز فالاسكا من قناة خطاب جورجيا ميلوني الأول بعد انتخابها، الذي تحدثت فيه عن “الجذور اليهودية المسيحية” لأوروبا. كما يُستشف من التعليق كل ما يعتصر اليسار الإيطالي من مرارة أمام الهدف الجديد الذي سجله اليمين في مرماه من طرف تاياني وهو رئيس ثاني حزب يميني في إيطاليا من حيث الشعبية، حسب نتائج البرلمان الأوروبي الأخيرة.
وبعيدا عن الذكاء السياسي الذي يلف هذه التصريحات والذي يجعل التحالف اليميني الحاكم يحصر بينه النقاش بشأن إصلاحات الجنسية من خلال توزيع دقيق للأدوار بين حزب “فورزا إيطاليا” (المنفتح على الآخر، بل هو الآخر بعينه بما أن رئيسه يقر بجذوره “الأجنبية” والإسلامية ويحتفي بها) وحزب الرابطة الذي يقوده سالفيني، شريكه في الحكم، والذي يُظهر انغلاقا وتشددا في هذا الصدد؛ ليحيّدا بذلك المعارضة عن النقاش وتتحول أي إضافة على كلام تاياني محض مزايدة ديماغوجية. غير أن تطبيق هذه الإستراتيجية السياسية لم يكن ممكنا لولا وجود عناصر طبيعية في التاريخ والشخصية الإيطالية أتاحت الأريحية التي أتت بها هذه التصريحات من سياسي يميني؛ ذلك أن رئيس حزب فورزا إيطاليا الذي أسسه الراحل سيلفيو برلسكوني لم يكن ليعبث مع وعائه الانتخابي ويخاطر بشعبيته لمجرد تسجيل نقاط في مرمى اليسار. وإذ يلاحظ في البلد الجار فرنسا كيف تكتّم جوردان بارديلا رئيس حزب التجمع الوطني (اليميني) عن حقيقة أن جده مهاجر جزائري مسلم قدم عام 1930 لفرنسا، حيث حققت الصحافة الفرنسية في الموضوع وكأنه “طابو” حقيقي.
لمعرفة ما يكتنف تاريخ العلاقات الإيطالية الإسلامية، والخلفية الثقافية التي يمكن قراءة هذه التصريحات من خلالها، التقينا فرانتشيسكا بوكا الدقر، وهي واحدة من أبرز الوجوه الثقافية المسلمة في إيطاليا.
ولدت فرانتشيسكا في بياتشينزا (شمال إيطاليا) عام 1987، وحصلت على دكتوراه في علم الأعصاب من جامعة ميونخ عام 2015، وماجستير في علم اللاهوت الإسلامي من كلية كامبردج الإسلامية عام 2018، وماجستير في علم النفس الإسلامي من كلية كامبردج الإسلامية عام 2022. صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان “لا أحب الآفلين” (2021)، ولها كتابات مسرحية. وقد صدر لها “نيتشه في الجنة” (2020)، و”تحت أقدامه تولد الزهور” (2019). وفي مايو/أيار الماضي صدر لها “بيان الإسلام الإيطالي” عن دار نشر ميميزيس. وكان لنا معها هذا الحوار:
-
كتابك “بيان الإسلام الإيطالي” كتاب متميز، إذ لا تضعين فيه الإسلام في علاقة استقطاب مع إيطاليا، بل تحتفين به كونه مكونا أصيلا للهوية الإيطالية، هل تصريحات تاياني للميساجيرو، التي أعاد نشرها الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الإيطالية تؤكد تماما ما نستشفه من كتابكِ أن إيطاليا ليست فرنسا ولا ينبغي لها ذلك، عندما يتعلق الأمر بالإسلام؟
“إيطاليا ليست فرنسا، ولا ينبغي لها ذلك” هذه جملة أشعر برغبة في تبنيها بمعناها الأعمّ أيضا، وليس الإسلامي فقط؛ ذاك أن العيب الإيطالي المتمثل في التطلّع إلى ما وراء جبال الألب لتلقي “الإلهام” الثقافي ليس في الواقع سوى علامة على الكسل الفكري. ولهذا السبب، شجعتُ مرارا وتكرارا في “بيان الإسلام الإيطالي” المفكرين الإيطاليين -سواء كانوا مسلمين أو غيرهم- على إعادة التفكير بشكل خلّاق في جذورنا للنظر في المستقبل، بدلا من التقليد الأعمى لما يحدث في بقية أوروبا.
“إيطاليا ليست فرنسا، ولا ينبغي لها ذلك” هذه جملة أشعر برغبة في تبنيها بمعناها الأعمّ أيضا، وليس الإسلامي فقط؛ ذاك أن العيب الإيطالي المتمثل في التطلّع إلى ما وراء جبال الألب لتلقي “الإلهام” الثقافي ليس في الواقع سوى علامة على الكسل الفكري
يبدو لي أن تصريح تاياني هو الفصل الختامي الأكثر جدارة لـ”بيان الإسلام الإيطالي”، فلننظر كيف أنه -من أجل المضي قدما في إصلاح قانون الجنسية الإيطالية- يتم إحياء الطريقة التيجانية نفسها!
-
لنتوقف إذن عند الطريقة التيجانية التي بُنيت أول زاوية لها في الجزائر، وامتدت في أفريقيا وتركت ما تركت من أثر في وجدان الشعوب التي عرفتها، وبما أنك باحثة إسلامية متبحرة في الطرق الصوفية ورئيسة المعهد الإسلامي للدراسات الإسلامية المعمقة (IISA) في إيطاليا، هل يمكن أن تحدثينا عن أي تأثير للصوفية في الفكر الإيطالي وانعكاساته في التعبير الثقافي أو الاجتماعي؟
هذا سؤال الجوابُ عنه ليس سهلا بالمرة، فلنقل إن الصوفية في إيطاليا لم تتجذر بعد ولم تأتِ بعد بأكلها الروحية والاجتماعية، وأبسط مقارنة يمكنني أن أعقدها تكون مع البوسنة، وهي أرض أوروبية مرت فيها على المسلمين ويلات أعظم بكثير من المصاعب التي نعيشها نحن، ومن ذلك معاناتهم من الاضطهاد وتعرضهم لحرب إبادة.
ففي البوسنة، تلعب كل تكية صغيرة دور مركز للتجمع والتربية الروحية والإنشاد والجمال والثقافة الرفيعة والتعليم. وفي البوسنة، كان الصوفيون، بفضل أدبهم وما بلغوه من درجات روحية، هم من دفع السكان المحليين لحب الإسلام، والتعرف على جماله، وفي النهاية اعتناقه. هذه الديناميكية تحديدا غائبة في إيطاليا، فنحن لدينا صوفية “نخبوية”، تكاد تكون سرية، ومن الصعب جدا شرحها للجمهور العربي، ولكن يمكننا أن نقول إنها صوفية لا تلعب دور المحفز الفكري إلا لعدد قليل من الناس، وفيهم من لا يجاهر بإسلامه حتى.
ولكن هناك أيضا كيانات متوسطة الحجم، مثل المريدية، التي تتبع تعاليم الشيخ أحمدو بامبا داخل المجتمع السنغالي، وتجمع حولها عددا كبيرا من معتنقي الإسلام. ولعل هذه الطريقة هي التي لها أكبر تمثيل عددي على الأراضي الإيطالية. هذا فضلا عن العشرات من المنظمات الأخرى، التي تؤدي الدور الأساسي للتعليم الروحي لأعضائها، ولكنها غير مرئية للعامة، إما بسبب صغر حجمها، أو بسبب عديد من العقبات المؤسساتية أو الاقتصادية الموجودة في إيطاليا.
-
بالعودة إلى كتابكٍ الأخير، خاصة الفصل المعنون “من قبر إلى قبر” المؤثر جدا -وربما هو ما جعلني أقف مطولا أمام تصريحات تاياني- أين انتهى قبر جده القادم إلى إيطاليا قبل 6 قرون يا ترى؟ والأمر هنا يتعلق بمهندس معماري لم يأت للغزو والنهب، بل ليبني ويشيّد ثم يموت، ويُفترض أن يدفن بكرامة على أرضه كأي إيطالي أحب الأرض التي عاش عليها وعمّرها. في “بيان الإسلام الإيطالي” لفتتني المقاربة التي لامستِ بها موضوعا بهذه الحساسية واستدعاؤك للشعرية الإيطالية العذبة، وهي ربما ما ذكّرت تاياني بجده ولم تفعل مع السياسي الفرنسي بارديلا! أليست هذه الرقة ومشاعر العرفان للأسلاف التي تشترك بها شعوبنا هي ما ينبغي أن نبني عليها عندما نتحدث عن المشترك الإيطالي الإسلامي؟
أنا سعيدة لأن الرقة التي أردت أن أُبلغ بها الفكرة قد وصلت. لقد كانت هذه محاولة لاتّباع حديث مشهور عن النبي ﷺ حث فيه عائشة (رضي الله عنها) على الرفق، حينما قال: “إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه”. بدا لي هذا كمصدر إلهام في غاية الجدّة لما يفترض أن يكون “مانيفستو”، أو أي نص فيه شكل من أشكال النقد الثقافي، وهي نصوص عادة ما تُصاغ بكلمات قاسية رافضة لأي موقف تسوية.
أذكر كيف تألم الشاعر الإيطالي أوغو فوسكولو عن جعل هوية المقابر مجهولة في إيطاليا بمقتضى مرسوم فرضه نابليون. إن احترام الموتى وتخليد ذكراهم هو جوهر ما يعنيه أن تكون إيطاليًا، فما بالك لو كنا أيضا مسلمين ومعنيين بإكرام الموتى بدفنهم في قبورهم وحفظ ذكراهم؟
وبالعودة إلى مسألة المقابر، بالطبع أود أن أعرف أنا أيضا مكان قبر جد تاياني، لكنني أود أن أعرف أكثر لماذا وإلى غاية جائحة كوفيد-19، لم تكن هناك سوى بضع عشرات من الأماكن المتوفرة في مقابر البلديات الإيطالية مخصصة للمتوفين المسلمين؟ أكرر مجددا أن هذا موضوع مرتبط بهويتنا، وفي كتابي، أذكر كيف تألم الشاعر الإيطالي أوغو فوسكولو عن جعل هوية المقابر مجهولة في إيطاليا بمقتضى مرسوم فرضه نابليون. إن احترام الموتى وتخليد ذكراهم هو جوهر ما يعنيه أن تكون إيطاليًا، فما بالك لو كنا أيضا مسلمين ومعنيين بإكرام الموتى بدفنهم في قبورهم وحفظ ذكراهم؟
-
في مقدمتي وسؤالي السابق، تعمدتُ وضع التجربة السياسية الفرنسية والإيطالية من حيث التعاطي مع الإسلام على طرفي نقيض، حتى لا يربط القارئ العربي بين عنوان كتابك “بيان الإسلام الإيطالي” وفكرة “الإسلام الفرنسي” السيئة السمعة التي يراد من خلالها “فرنسة” الإسلام على نحو يجرده من عناصره الجوهرية، على عكس ما يدعو له كتابكِ. لكن قد يكون مثريا للنقاش الإشارة للمقال الذي كتبته عالمة الاجتماع الإيطالية كيارا سباستياني (المسلمة أيضا) والذي نشره موقع “لا لوتشي” يوليو/تموز الماضي، إذ تلاحظ فيه سباستياني أن “بيان الإسلام الإيطالي” يغفل البعد الكوني للإسلام من حيث إنه دين ينبغي له ألا يُربط بقوميات ضيقة؟ ما تعليقك على هذا الرأي؟
بصراحة، أنا لم أفهم تعليق الدكتورة سباستياني جيدا؛ فلطالما كان الإسلام، طيلة تاريخه الممتد على 14 قرنا، قادرا على تحقيق التوازن بين الوتر الكوني والانتماء إلى الثقافة المحلية. وعليه، فإن المسلم الإيطالي، بغض النظر عن العوائق اللغوية، لن يواجه أي مشكلة في ممارسة إسلامه ضمن أي مجتمع مسلم آخر في العالم، تماما كما أن الوتر الكوني لن يدفعه إلى نسيان أصوله.
لطالما كان الإسلام، طيلة تاريخه الممتد على 14 قرنا، قادرا على تحقيق التوازن بين الوتر الكوني والانتماء إلى الثقافة المحلية. وعليه، فإن المسلم الإيطالي، بغض النظر عن العوائق اللغوية، لن يواجه أي مشكلة في ممارسة إسلامه ضمن أي مجتمع مسلم آخر في العالم، تماما كما أن الوتر الكوني لن يدفعه إلى نسيان أصوله
باختصار، هما مكونان يتعايشان دائما بشكل طبيعي. أما إن كنا نجد صعوبة في تصور إسلام إيطالي يختلف عن الإسلام الألماني، فذلك فقط لأن هذين الإسلامين لم يتحققا بالكامل بعد. وبتصوري، كان من الصعب على الصحابة أيضا أن يتخيلوا إسلاما فارسيا وآخر سوريا، ومع ذلك…!
-
ضمن حوار لك مؤخرا مع بول ويليامز على قناته “بلوغينغ ثيولوجي” (Blogging Theology) على يوتيوب، تحدثتِ عن تحيز وسائل الإعلام الكبرى في إيطاليا للسردية الإسرائيلية بشأن العدوان المتواصل منذ 11 شهرا على غزة. لكن اللافت أيضا خلال هذه الحرب هو أن حتى ما يسمى “الإعلام البديل” في إيطاليا بات يقدم سردية مضللة عن الواقع الفلسطيني من خلال ربطه بخطاب ثقافي نيوليبرالي لا يعكس القيم المجتمعية للشعب الفلسطيني. في كتابك تحدثتِ ضمن فصل “ثرثرات” عن المستشرقين الجدد، ولفتني كيف أنكِ التقطت بحساسية عالية الإشارات التي برزت السنوات الأخيرة ضمن الخطاب الثقافي للاستشراق الجديد والذي يزاوج بين الإساءة للإسلام والتضامن مع الشعب الفلسطيني. هذه الظاهرة تحدث عنها أيضا الباحث الأميركي المسلم جيك برانكاتيلا، الذي دعا قبل أيام عبر صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي للتوقف عن “الهوس بغير المسلمين الذين يدافعون عن القضية الفلسطينية، لأن أغلب هؤلاء يدافع عن فلسطين وينتقد الإسلام بشراسة في الوقت نفسه…”، حدثينا أكثر عن ظاهرة اختباء كارهي الإسلام وراء شعارات التضامن مع فلسطين، وكيف ينبغي للمسلمين التعامل معها؟
فعلا، كلام برانكاتيلا معقول للغاية، فخذي مثلا حالة الجامعات البيضاء التي تحتفي بـ”دراسات إنهاء الاستعمار” عندما يتعلق الأمر بشبه القارة الهندية أو أميركا الجنوبية، ولكنها تنسى على الفور مدى الاستقلالية التي يجب أن تكون عليها عملية إنهاء الاستعمار -بحكم تعريفها- عن آلهة الوصاية البيضاء هذه نفسها.
لا أود اختزال القضية الفلسطينية في ديناميكية بسيطة لإنهاء الاستعمار، فنحن المسلمين لدينا مفرداتنا ومتطلباتنا الخاصة، ولكن هذا مثال أريد به تسليط الضوء على النفاق الصارخ في الأوساط الأكاديمية الغربية بهذا الشأن
وأنا هنا لا أود اختزال القضية الفلسطينية في ديناميكية بسيطة لإنهاء الاستعمار، فنحن المسلمين لدينا مفرداتنا ومتطلباتنا الخاصة، ولكن هذا مثال أريد به تسليط الضوء على النفاق الصارخ في الأوساط الأكاديمية الغربية بهذا الشأن. والأمر ينسحب على وسائل الإعلام البديلة في إيطاليا، التي أعتقد حتما أنه يتعين علينا أن نكون حذرين حيالها، فهي تقدم تفسيرات مصطنعة وملتوية بشكل مفرط لواحدة من أبسط القضايا: شعب يريد أرضه ولا يقبل العيش في ظل الفصل العنصري.
وهذا يأخذني إلى نقطة أخرى أريد أن أشجع المسلمين في إيطاليا على فعلها، ألا وهي تعزيز سرديات الشعب الفلسطيني التي صاغها الفلسطينيون أنفسهم، فعلى سبيل المثال، شعر درويش مترجم إلى اللغة الإيطالية. ولكن هناك أيضا كُتابا فلسطينيين إيطاليين شبابا ملتزمين بإنتاج أدب عن أرضهم وتجربتهم، وهنا تحضرني آلاء السيد بروايتها “صابون”.
-
حتى نبقى في سياق “التضامن” الإيطالي مع الشعب الفلسطيني، قامت قبل أشهر تنسيقية كبرى لجمعيات نسوية إيطالية بالإعلان عن مظاهرة لدعم القضية الفلسطينية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، واختارت ملصقا للترويج للحدث في أحد أقاليمها عبر رسم يصور امرأة سمراء -أريد لها أن تبدو فلسطينية مسلمة- وهي ترتدي الحجاب، ولكنها في الوقت عينه تظهر سُرّتها وبطنا متهدلا (لدعم حركة “البودي بوزيتفيتي” -أي النظرة الإيجابية للجسم- أيضا على ما يبدو) وعلاوة على ذلك، تظهر جزءا من صدر متجعد وراء فتحة الثياب، أما على يسارها، فتقف امرأة (أو رجل) ترتدي تنورة قصيرة ويكسو فخذيها الشعر وتفاصيل أخرى نافرة، زُرع الحجاب وسطها على نحو مقصود. وقد انتهي هذا الملصق “الداعم لفلسطين” على الصفحات الساخرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وأنا شخصيا وجدته صدفة على صفحة ساخرة! في كتابك، حذرتِ من تحويل الحجاب إلى مجرد “ترند” على التيك توك، وفي حوار له أيضا على الجزيرة نت تحدث فرانتشيسكو بورغونوفو عن نزع الطابع القدسي للحجاب في إيطاليا وتحويله إلى كاريكاتير. ليبقى الخطير في هذا التوجه القائم على تسخيف رموز الدين هو أنه لا يأتي ممن قد نعتبرهم “الأعداء التقليديين” للمسلمين، ولكن من جهات تدّعي دعمها وتضامنها مع النساء العربيات والمسلمات. كيف تقرئين هذه الظاهرة؟ ولماذا التركيز دوما على المرأة المسلمة في العلاقة مع الغرب؟
للأسف، لا أعتقد أنه يمكن تعريف التقدميين في الغرب بأنهم ليسوا “أعداءنا التقليديين”. الأكيد هو أن أسوأ حالات الإسلاموفوبيا تطرحها في الوقت الحالي الأحزاب اليمينية والموجة السيادية الأخيرة التي أتت بها، ولكن الحركة السياسية اليعقوبية المناهضة لرجال الدين والتي وُلدت خلال الثورة الفرنسية لم تكن نظرتها قط إيجابية عن الإسلام. وليس من قبيل المصادفة أن فولتير نفسه استخدم النبي محمد ﷺ في التراجيديا التي كتبها بعنوان “محمد” عام 1736 لتجسيد رذيلة التعصب (والأمر كان فاحشا لدرجة أن الألماني غوته -أحد المسلمين الأوروبيين الأوائل- تعفّف عن ترجمتها بالكامل إلى الألمانية).
وبالنسبة لليبراليين اليوم، الإسلام والمسيحية سواء، أي أن كليهما يمثل تعصبا ينبغي التخلص منه في أسرع وقت ممكن.
لاحظ فرانتس فانون بالفعل المشكلة المركزية للحجاب: المرأة المسلمة، التي ترى الجميع دون أن يراها أحد، تحبط عيون المستعمر
ووصولا إلى مسألة الحجاب، فقد لاحظ فرانتز فانون بالفعل المشكلة المركزية للحجاب: المرأة المسلمة، التي ترى الجميع دون أن يراها أحد، تحبط عيون المستعمر. لكننا نتحدث عن زمن آخر، عندما لم يكن الحجاب مجرد قطعة قماش على الرأس، وكان قادرا على جعل العديد من التفاصيل الأنثوية غير قابلة للتمييز، والغرب، الذي اعتاد على قراءة كل شيء من حيث ديناميكيات السلطة، رأى في الحجاب عدم توازن لا يصبّ في صالحه عندما يتعلق الأمر بميزان القوى: فالمرأة هنا لديها سلطة جعل نفسها غير مرئية، والرجل ليست لديه سلطة خلع ملابسها.
اليوم، عندما أصبح الحجاب في أوروبا مجرد رمز أكثر من كونه يشكل اختلافا جذريا في الرؤية -لذا سأقتصر على جعل كلامي محايدا، لكنه يحتاج إلى تأملات عميقة- أصبح من الممكن تشويه الحجاب، والتطاول عليه، أو حتى تمزيقه.
وكل هذا يندرج ضمن عملية أوسع تتمثل في إهانة أجساد المسلمين وملابسهم، وهي أمور أتحدث عنها في كتابي ويمكن العثور عليها بالفعل، في جوهرها، في العصور الوسطى.
-
بالعودة إلى حوارك مع بول وليامز، كان من اللافت صدمته الكبرى عندما علم بالوضع الاستشراقي السائد في إيطاليا، لا سيما عندما سألك عن المفكر الفلسطيني وائل حلاق، وعلم أن أهم كتبه غير مترجمة للإيطالية. في كتابك وضمن الفصل المعنون “مستشرقونا”، وهو فصل عظيم على كل الأصعدة، تمكنت من تفكيك الخطاب الاستشراقي الجديد في إيطاليا من خلال نماذج حية وتحليل نصوص مستلة من صحف كبرى ومواقع التواصل، بل وقمتِ ضمن فصل آخر بفضح كيف قامت بعض الأسماء الكبيرة في الأكاديميا بعرقلة مجلات جادة في الدراسات الإسلامية ومنعها من الانتشار. واللافت أن الأمر يتعلق بشخصيات وازنة تحسب على الحوار بين الحضارات والانفتاح على الآخر. فالأمر لا يتعلق بمستشرقين فاشيين بل بعضهم يعد من أكبر وجوه اليسار الإيطالي حاليا. إلى أي مدى تعتقدين أنه من المهم تفكيك خطاب الاستشراق الجديد حتى إن تعلق الأمر بأسماء كبيرة؟ وألا تخشين أن ننتهي بكشف أوراق الجميع والبقاء من دون “أصدقاء” حتى إن كانوا مزيفين؟!
باعتقادي، إن الفضيلة التي يجب على المسلمين في إيطاليا إعادة اكتشافها -وأقصد تحديدا تلك الفضيلة النابعة من قيم الفروسية والمروءة- هي الشجاعة. لماذا نخاف من قول الحقيقة؟ ولماذا نخشى أن نقول إننا لا نتفق مع الطريقة التي يتم تصويرنا بها، أو معاملتنا، أو إقصاؤنا، أو إدماجنا من خلالها؟ أنا ألمس هذا الخوف من كل الاتجاهات. لا بد من اشتغال روحي حقيقي يتعين على هذا المجتمع القيام به حتى يتحرر من الخوف.
أما من ناحية أخرى، فإن كانت المشكلة بالنسبة للمسلمين الإيطاليين هي وجود “أصدقاء” -وهو أمر لست متأكدة منه، لكنه قد يساعد- فلنبدأ إذن بالنظر إلى ما هو أبعد من حدودنا الوطنية قليلا. إن ضيق الأفق هو أحد القيود الكبيرة التي تكبّل الإيطاليين، ولكن تنمية شبكة من المعارف ذات طابع أوروبي، أو كما أحلم، شبكة عالمية من المعارف من الممكن أن تساعدنا على تحرير أنفسنا من السلطة البارونية للجامعة.
كل ذلك يجب أن يرافقه تفكيك لخطاب الاستشراق الجديد وهو مسعى أساسي. ومن النماذج التي يمكن أن نستدلّ بها في هذا الصدد الكتاب الثمين لعبد الفتاح كيليطو “لن تتكلم لغتي”، الذي يعد دفاعا بقلب مفتوح عن تجربة أن تكون عربيا، ورفضا لأن تُروى من الخارج، ولكن بأسلوب رقيق ورائع.
-
في الفصل المعنون “علم الحشرات التطبيقي”، تكلمتِ بصراحة عن الاضطهاد المهني الذي يتعرض له الأساتذة الإيطاليون معتنقو الإسلام في الجامعات الإيطالية (تحديدا أقسام الدراسات العربية والإسلامية)، وقد يكون هذا هو أول توثيق لهذه الظاهرة في كتاب إيطالي. في حوار مع دافيدي بيكاردو العام الماضي، سألتُه عن هذا الموضوع، ومثلكِ تماما اختار دافيدي تأكيد الظاهرة، لكن دون ذكر أسماء، حفاظا على خصوصية الأشخاص الذين لا يرغبون في الحديث علنا عن المعاناة التي يعيشونها، وبعضهم فارق فعلا الحياة من دون أن يدري أحد بما مر به في الجامعة الإيطالية. برأيك وبالرغم من كل القيود، ما أهمية توثيق هذه الظاهرة؟
أنا أعتقد أنه من الضروري توثيق حياة المسلمين في إيطاليا، داخل الجامعات وخارجها، لكن على وجه الخصوص حياة المسلمين داخل الجامعات، حتى لو كانت مجهولة المصدر، وحتى لو كانت مخفيّة، يجب أن تُروى، وإلا فإننا نخاطر بأن يُقذف بنا إلى غياهب النسيان مرة أخرى، وأن ننتهي تماما كسلف تاياني المعماري.
أعتقد أنه من الضروري توثيق حياة المسلمين في إيطاليا، داخل الجامعات وخارجها، لكن على وجه الخصوص حياة المسلمين داخل الجامعات، حتى لو كانت مجهولة المصدر، وحتى لو كانت مخفيّة، يجب أن تُروى، وإلا فإننا نخاطر بأن يُقذف بنا إلى غياهب النسيان مرة أخرى
بل وإلى ما هو أكثر سخافة، ففي بعض الأحيان يتم “تبييض” الأكاديميين المسلمين بشكل علني، بعد وفاتهم، حيث يتم حذف الإسلام من ذاكرتهم. وهذا حال المستعربة الشهيرة لاورا فيتشيا فيلييري، وهي مؤسسة دراسة اللغة العربية في إيطاليا، وكانت قد وضعت كتيبا ليس معروفا على نطاق واسع بعنوان “مرافعة عن الإسلام”، وفيه تدافع بلهجة نارية إلى حد ما عن الإسلام، وتعلن فيلييري بوضوح في عملها هذا أنها مؤمنة بالعقيدة الإسلامية. حسنا، في الجامعة لا يوجد أي ذكر لهذا الكتاب، والناشر الصغير الوحيد للكتيّب حشر فيه ملاحظة تمهيدية على شكل مقال تصديري يبدأ على النحو التالي: “مطنبة، مقرفة، متحيزة، مزعجة، غير نقدية، عفا عليها الزمن، لا يمكن الدفاع عنها، لا تطاق، متعبة، استفزازية، ساذجة”.
في الحقيقة، العنوان الشهير لسبيفاك والذي أصبح مانيفستو لمرحلة ما بعد الاستعمار “هل يستطيع التابع أن يتكلم؟” ينطبق تماما على الإسلام الإيطالي.
-
فلنحاول أن نختم بالجمال، في كتابك دعوة للمسلمين الإيطاليين لتقديم مساهمات فنية وثقافية في إيطاليا، لأن الفن بشكل أو آخر هو ما يمثل روح الهوية الإيطالية، ويعد تأكيدا مزدوجا للهوية الإيطالية والإسلامية معا. هل تعتقدين أن هذه الدعوة لتكريس الإيطالي المسلم نفسه ضمن النخبة الثقافية يمكن أن يتأتّى من دون ترويج إعلامي؟ أي من دون الخضوع لأجندات من يمسك بزمام “السلطة الفكرية” اليوم بتعبير مارتشيللو فينيتسياني الذي أكد في حوار سابق له على الجزيرة نت أن سلطة الترويج والإشهار للمثقفين في إيطاليا تقع كليا في يد اليسار. ولذلك، فحتى المثقف الإيطالي الكاثوليكي المحافظ يعتبر مثقفا غير معترف به في المشهد الإيطالي، فما بالك بأن يكون مثقفا محافظا ومسلما أيضا؟! وهنا، اسمحي لي أن أضرب مثلا بك أنت شخصيا، فأنت شاعرة جميلة باللغة الإيطالية صدرت لك مجموعة بعنوان “لا أحب الآفلين”، كما أنني قرأت لك ديوان شعر مرهف جدا غير منشور، لكن لا أعرف إن كنت ترغبين في الحديث عنه وعن تجربتك الشخصية بوصفك شاعرة؟ ولماذا أنت غائبة (أو مغيّبة) عن المشهد الشعري في إيطاليا؟ مع ملاحظة أنك تحدثتِ في كتابك عن تقصّد تهميش الأسماء المسلمة من المشهد الشعري الإيطالي..
زراعة الجمال أمر أساسي في المجتمع المسلم، فالله جميل يحب الجمال، وكل مسلم يقوم بما يحبه الله، سيتحقق له ما لا يستطيع أي صديق أو أي نخبة فكرية أن تمنحه إياه؛ الأمر يتعلق بالتمتع الصادق والروحي بالجمال، لإعادة الرابطة مع الخالق.
زراعة الجمال أمر أساسي في المجتمع المسلم، فالله جميل يحب الجمال، وكل مسلم يقوم بما يحبه الله، سيتحقق له ما لا يستطيع أي صديق أو أي نخبة فكرية أن تمنحه إياه؛ الأمر يتعلق بالتمتع الصادق والروحي بالجمال، لإعادة الرابطة مع الخالق
باعتقادي، الجمال ينبغي له أن يُزرع فقط على ضوء هذا النوع من الخبرة، بينما في إيطاليا، للأسف، هذا مجال يلجه المرء لتنمية “النفس”. لقد عملت لفترة وجيزة في هذه الأوساط، في المجلات الثقافية والفنية والشعرية، ووجدت أنها ليست أوساطا يمكن أن تزدهر فيها روحانيتنا.
مشكلة حقبة ما بعد الحداثة أنها بعد انهيار كل اليقينيات، خلصت إلى عبادة الذات.
هذا ضرب من الفن لا صدى له عند القارئ المسلم، ولا يخاطب فيه أي شيء.
مشكلة حقبة ما بعد الحداثة أنها بعد انهيار كل اليقينيات، خلصت إلى عبادة الذات. هذا ضرب من الفن لا صدى له عند القارئ المسلم، ولا يخاطب فيه أي شيء
لعل هناك مجالات أخرى يستطيع المسلم أن يعبر فيها عن الجمال، أول ما يتبادر إلى ذهني هو مجال الأزياء، فالملابس الإسلامية التقليدية كانت لا تضاهى من حيث الزخرفة والالتزام في الوقت نفسه، بينما اليوم فنحن نرتدي أي شيء تقدمه لنا الموضة السريعة يتيح أكماما طويلة وتنانير واسعة.
أما اقتراحي الأخير، تحديدا في مجال الشعر حيث يصعب العثور على جهات مستعدة لمنحنا مساحة للتعبير، فهو أن نعود لاكتشاف الدور الذي كان يضطلع به الشعر الإسلامي، من حيث كونه بذرة يتم تداولها بحرية -والإنترنت ليست الأداة الوحيدة للقيام بذلك- لنشاركه مع أرواحٍ تشبهنا.