ثقافة وفنون

مسرحية “خيال صحرا”.. الرقص فوق خط التماس

يكتب المؤلفون الفاجعة، ولا يمكن الحدس أو التأكد إن كانوا يكتبونها وهم يتفادون الألم أم يمعنون في استنزاف جرح الكتابة الغائر.

عادة نحن متورطون -كمتلقين- في الألم، فالكاتب يحكي قضايا عصره، ومتورطون في تفادي الألم، فهذا ما يفعله غالبيّة الناس، ومتورطون بل ربما نحن متواطئون في أداء دور الضحيّة في لعبة الازدواجية التي تحكم مسار الحياة على هذه الأرض.

وربما لا يبحث الكاتب المسكون بفكرة ما ونراها تتبدى وتتكرر في معظم أعماله الفنيّة، عن خلاص نهائي في أعماله، لكنه يجرب نوعا من التطهير، والبحث عن إعادة تشكيل صورة الفاجعة أو محفز الكتابة، وربما صورته الذاتية، وصورة مجتمعه، والنزوع نحو جعل القضية التي يحكي عنها، محكية بلغة يفهمها الآخرون، لغة العاديين ولغة الجميع، وساعتها يسهم الفكر الذي تخاطبه الكتابة في إيجاد حلول لها.

من يتتبع أعمال الفنان جورج خباز يتمكن من التقاط القضايا التي تسكنه، فهل من جديد قدمه آخر أعماله المسرحية “خيال صحرا”؟

تثير العناوين التي تتخذ من المبتدأ خطابا مبتورا من خبر يصفه، تساؤلات عند المتلقي، لكنها تجعل من العمل الفنيّ كله خبرا. وخباز هنا لا يجرب، هو يعرف أن “خيال صحرا” بما في هذه العتبة من غموض، شيفرة للقلق، وصورة زائغة، يمكن أن تلوّح بضبابيّة الواقع، وقساوته وانفلاته، وفي الوقت نفسه من ترجيع صداه في طريقين: الأول نحو الأنا/الذات، هذه الصحراء هي روحي العطشى وواقعي القاسي وضياعي وبحثي، والثاني نحو الآخر، العربي هنا تحديدا، فالصحراء رمز لبلاد العرب.

ربما تتوحد الصورتان، الأنا الآخر، في صورة الأرض/الصحراء/ الوطن، وهو خيال: فهل يغدو أجمل؟ أم أبعد؟ وهل ينتهي البحث؟ هل تجد الأنا صورتها واضحة؟ كيف؟

مسكونا بالموسيقى يلملم خباز قصة الحرب التي شطرت لبنان إلى قسمين، وعند خط تماس اللبنانيْن، يقف عدوّان، كل بسلاحه وتعصبه وخلفيته الثقافيّة ودينه، وكل بقصته وطموحه ودوافعه. ولأنّ الزمن يموت في الحرب، وخلال هدنة عرفتها بيروت في سبعينيات القرن الماضي، توقف فيها إطلاق النار على الآخر، يفتح القدر بوابة زمنيّة، فاصلا قصيرا فيحكي كل منهما قصته وأحلامه للآخر

مسكونا بالموسيقى يلملم خباز قصة الحرب التي شطرت لبنان إلى قسمين، وعند خط تماس اللبنانيْن، يقف عدوّان، كل بسلاحه وتعصبه وخلفيته الثقافيّة ودينه، وكل بقصته وطموحه ودوافعه. ولأنّ الزمن يموت في الحرب، وخلال هدنة عرفتها بيروت في سبعينيات القرن الماضي، توقف فيها إطلاق النار على الآخر، يفتح القدر بوابة زمنيّة، فاصلا قصيرا فيحكي كل منهما قصته وأحلامه للآخر.

في هذا الفاصل يحلل خباز أسباب الحرب، يعرف المقاتلين، يكشف الأسباب النفسية والاجتماعية والعقدية التي جعلت كل واحد منهما ينخرط في الحرب، وبالرغم من التناقضات في الظاهر، يشبهان بعضهما، كلاهما له أسباب جعلته متورطا في حرب يريدها أن تنتهي كي يعيش. كلاهما يدعي القوة وهو ضعيف، كلاهما يحب أمه ويعشق امرأة، وكلاهما يحلم.

في لحظة الحلم يبدأ الرقص. يغيب البطلان في رقصة مشتركة، تصعد فيها الأنا فوق كلّ شيء، تلغي الحدود وتنتصر على خذلان الواقع وتجد لها مكانا في أرض خفيفة تنقذها من لا جدواها ولا فعاليتها.

يحلل خباز أسباب الحرب، يعرف المقاتلين، يكشف الأسباب النفسية والاجتماعية والعقدية التي جعلت كل واحد منهما ينخرط في الحرب، وبالرغم من التناقضات في الظاهر، يشبهان بعضهما، كلاهما له أسباب جعلته متورطا في حرب يريدها أن تنتهي كي يعيش. كلاهما يدعي القوة وهو ضعيف، كلاهما يحب أمه ويعشق امرأة، وكلاهما يحلم. في لحظة الحلم يبدأ الرقص. يغيب البطلان في رقصة مشتركة، تصعد فيها الأنا فوق كلّ شيء، تلغي الحدود وتنتصر على خذلان الواقع وتجد لها مكانا في أرض خفيفة تنقذها من لا جدواها ولا فعاليتها

ولأن الحلم خفيف ينتفي الزمن، يقف خباز وكرم وقد انتهى الرقص (الحلم) الجامع وانتهت الحرب.. خيالان عن ماضٍ، يحكي كلّ منهما عن خذلان الأحزاب، الذين تسلقوا فوق الجثث وكيف تحولوا إلى رأسماليين لا وقت لديهم لرفاق الأمس، وهنا تصبح لحظة الآن في لبنان هي اللغة المشتركة، الديون والغلاء والمرض وغياب الدولة والعمر وقصص الأبناء وتجاربهم المختلفة، والخوف من المجهول أمام أبواب المصارف التي يحرسها قتلة الماضي.

“خيال صحرا” لجورج خباز توضح المشهد التاريخي والثقافي والوجودي في لبنان، وحجم الخسائر المعنوية التي يتكبدها اللبناني، وحاجته إلى التجذر وبحثه عن مكان يركن إليه ويشع منه، وهو يحيا قضايا الخسران، ويخشى الحرب التي تتمظهر في تفاصيل يومه العادي، ويكتب كارثيّة التحولات التي ظل اللبناني يهرب منها، في دولة تنبذه وتلغيه.

لا أشعر أن توقيت عرض العمل صدفة، اليوم هو الرابع من أغسطس/آب وقد بدأت العروض على مسرح كازينو لبنان في الثاني من أيام الشهر، يلمح خباز إلى كارثة المرفأ، يشير إلى استمرار الفاجعة، إلى الانقسام على كلّ شيء، إلى فوضى الحلول وانعدامها، إلى تراشق الاتهامات، إلى حدة الخطاب، إلى الآخر بما هو عدو، إلى سرابية المواقف وضياع الحقيقة، إلى التوتر والقهر وميراث ثقيل من الخيبات، في وقت مصيري تشهده المنطقة والعالم، تنعقد فيه المصالحات، ويموت الأطفال بدون سبب.

هذه الازدواجية توقّف الزمن فتبحث الذات المتفجعة عن خيال، ولا نعرف أيهما أقسى  الموت أم الحياة.. ساعتها يستاويان أمام غياب الوطن (الأنا).

بهذا العنوان يفتح خباز باب التساؤل، وقد ورطنا في تأويل دلالته، بل ورطنا في الرقص معه فوق ألغام حروبنا الصغيرة، وربما تلك الكبرى، وبالقدر نفسه من الخفة كي لا يستمر الوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى