افريقيا

القصة الكاملة لاتفاقية عنتيبي لدول حوض نهر النيل

مع تصديق دولة جنوب السودان على اتفاقية عنتيبي، يكتمل النصاب القانوني لتأسيس مفوضية حوض نهر النيل، وسيتم البدء بإجراءات تأسيس المفوضية بعد 60 يوما من إيداع الجمهورية وثائق التصديق لدى الاتحاد الأفريقي.

وكانت 5 دول قد وقعت على الاتفاقية، وهي إثيوبيا ورواندا وتنزانيا وأوغندا وبوروندي، ويشترط الجزء الثالث من الاتفاقية تصديق برلمانات 6 دول على الأقل، لتأسيس المفوضية التي سيكون مقرها الدائم في أوغندا.

وتثير هذه الاتفاقية قلق مصر إذ إنها لا تعترف بحصتها من مياه النيل والمقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب من المياه سنويا.

في هذا التقرير سنسلط الضوء على التحولات التي تشهدها منطقة حوض النيل والاتفاقيات التي وقعت منذ زمن الاستعمار وصولا إلى اتفاقية عنتيبي، التي استندت على مبدأ نايريري الموقع في ستينيات القرن الماضي، وما موقف دول المصب المتضررة من الاتفاقية.

حوض النيل

يشمل حوض النيل في تعريفه الأوسع 11 دولة أفريقية، يشكل سكانها ما نسبته 40% من إجمالي سكان القارة السمراء، ويتشكل الحوض من 3 أحواض رئيسية:

  • حوض النيل الشرقي ويشمل مصر والسودان وإثيوبيا، ويتضمن النيل الأزرق وبعض الأنهر الفرعية.
  • حوض نيل البحيرات الاستوائية والذي يشمل الكونغو ورواندا وبوروندي وكينيا وأوغندا ومصر والسودان، ويتضمن هذا الحوض بحيرة فيكتوريا، والتي تعتبر من أكبر البحيرات في العالم ومصدرا رئيسيا لنهر النيل الأبيض.
  • حوض النيل الجنوبي والذي يشمل جنوب السودان وأجزاء من أوغندا وكينيا ويتضمن هذا الحوض نهر السوباط وهو أحد روافد النيل الأبيض.

ويعتبر النيل أطول أنهار العالم بطول 6650 كيلومترا، ويغطي حوض النيل مساحة قدرها 3.4 ملايين كيلومترا مربعا ويتميز النيل وروافده بالجريان من الجنوب إلى الشمال.

النيل يعد أطول أنهار العالم بطول 6650 كيلومترا ويغطي حوض النيل مساحة قدرها 3.4 ملايين كيلومترا مربعا (شترستوك)

جذور الصراع

لم يكن التدافع الذي تشهده منطقة حوض النيل وليد اللحظة الراهنة، بل له جذور ضاربة في تاريخ القارة الأفريقية المرتبط بتاريخ التدافع الأوروبي لاستعمارها، وتقاسمها منذ مؤتمر برلين المشهور في 1885.

كانت البداية مع بروتوكول 1891، الذي وُقع بين بريطانيا وإيطاليا بالإنابة عن مصر والسودان وإريتريا على التوالي، واتسعت لتشمل الدول التي تستعمر دول حوض النيل، وانتهت باتفاقية مياه النيل المعروفة باتفاقية 1929.

تعتبر اتفاقية 1929 واحدة من أهم اتفاقيات حوض النيل، وقد منحت مصر ضمان حصة معينة من المياه واصطلح عليه بالحق المكتسب أو “الحق التاريخي”.

كما منحت الاتفاقية مصر حق الاعتراض على أي مشروع يقام على أحد مجاري النيل إذا قدرت أنه يلحق أضرارا بأمنها المائي، وما بين الاتفاقيتين عدد كبير من المعاهدات والاتفاقيات التي وُقعت بين المستعمرين الأوروبيين إنابة عن الدول الأفريقية التي كانت تحت سيطرتها.

اتفاقيات ما بعد الاستقلال

هي أول اتفاقية توقع بين دولتين مستقلتين هما مصر والسودان، ولم يشارك في هذه الاتفاقية عدد من دول حوض النيل التي لم تكن قد نالت استقلالها بعد مثل تنزانيا وأوغندا ورواندا وبوروندي التي استقلت في 1962، ثم كينيا التي نالت استقلالها في 1963.

وكانت الدوافع وراء الاتفاقية مجموعة من المشروعات التي كانت تخطط لها الدولتان، فمصر كانت تخطط لبناء السد العالي، بينما فاوض السودان لبناء سد الروصيرص، كما رفعت الاتفاقية حصة السودان من مياه النيل من 4 مليارات متر مكعب لتصل إلى 18.5 مليار متر مكعب، بينما منحت مصر 55.5 مليار متر مكعب.

  • موقف دول المنبع

تقف دول حوض النيل باستثناء دولتي المصب مصر والسودان موقفا متشددا من الاتفاقيات التي عُقدت قبل أن تكون دولا مستقلة وأهم الاعتراضات هي:

  • أن الاتفاقيات من صنع الدول الاستعمارية ولم تكن جزءا منها هذه الدول، كما أنها لم تعلن تأييدها لها أو الانضمام إليها بعد الاستقلال وبالتالي هي غير ملزمة لها.
  • الاتفاقات منحت مصر هيمنة مطلقة على مياه النيل بدون مراعاة لدول حوض النيل الأخرى.
  • لم تراع الاتفاقيات ولم تأخذ في حسبانها حقوق دول الحوض الأخرى ولا حاجتها في استغلال والاستفادة من مياه حوض النيل، ولم تراع احتياجاتها التنموية الحالية والمستقبلية.

ومن هنا نشأت الخلافات حول التعاطي مع قضية مياه النيل وكيفية التوصل إلى رؤى مشتركة خاصة بين مصر وإثيوبيا، ورغم التعاون في بعض المشروعات المشتركة على مستوى دول الحوض، فإن الخلافات بين مصر وإثيوبيا، أثرت كثيرا على اتجاه التفكير في إطار المجموعة.

تتمسك دول منابع النيل بنظرية الصفحة البيضاء أو مبدأ نيريري، الذي ينص على أن الدول التي كانت خاضعة للاستعمار لم يكن لها أي دور في إبرام المعاهدات في العهد الاستعماري، وبالتالي فهي لا تعترف بتلك الاتفاقيات.

تبنت دول المنابع هذا المبدأ لتتحلل من التزامات الاتفاقيات التي أبرمت في فترة الاستعمار وصاغت عبارة أخرى لتعبر عن مبدأ “الاستخدام العادل الذي تبنته اتفاقية عنتيبي لاحقا”.

كما أن هذا المبدأ يتماشى مع اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997، بشأن استخدام المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية، والتي تدعوا إلى وضع إطار قانوني ملزم يحدد تفاصيل استخدام الموارد وآليات فض النزاعات بين الدول.

تطور الأطر الإقليمية المشتركة لحوض النيل

  • مبادرة هيدروميت (1967)

كان السبب وراء هذه المبادرة هو الارتفاع الكبير الذي طرأ على مياه بحيرة فيكتوريا في بداية ستينيات القرن الـ20، وهو ما أدى إلى فيضانات شديدة وأضرار على طول شواطئ بحيرة فيكتوريا.

قامت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبدعم من مصر بدراسة الأسباب المحتملة لذلك الارتفاع الكبير في مياه البحيرة، وشملت المبادرة جمع البيانات ونمذجتها، وتحليلها، وتدريب الموظفين العاملين على فهم هطول الأمطار والجريان السطحي في الحوض العلوي.

ومن خلال تنفيذ المبادرة التي عرفت بهيدروميت تم جمع البيانات على مدى فترة 25 عاما وتم تدريب الموظفين من جميع البلدان الأعضاء.

وعلى نفس القدر من الأهمية، أنشأ مشروع هيدروميت منتدى يسمح للدول الأعضاء بمناقشة القضايا الفنية المختلفة المتعلقة بتنمية نهر النيل.

وعلى الرغم من مشاركة دول حوض النيل إلا أن إثيوبيا لم تكن جزءا منها، مع تشكيك من بعض دول الحوض باستغلال مصر والسودان هذه البيانات في التخطيط المستقبلي، وهو ما أضعف الثقة بين الدول.

  • مبادرة أندوغو (1983)

وهي مبادرة تعاونية غير رسمية اقترحتها مصر ولكونها غير رسمية تمت تسميتها “أندوغو” وهي كلمة سواحلية تعني الأخوة.

وهدفت المبادرة إلى مناقشة قضايا مياه النيل والزراعة وتنمية الموارد وتعزيز التعاون الاقتصادي والفني والعلمي بين الدول المشاطئة، وتفاعل معها بالموافقة كل من السودان وأوغندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى من خارج حوض النيل وانضمت إليها في وقت لاحق كل من بوروندي ورواندا وتنزانيا، وبقيت كينيا وإثيوبيا في موقع المراقب.

خدمت المبادرة المجموعة كمركز مؤسسي لتبادل الخبرات وتقصي الحقائق، ولكنها فشلت في تلبية احتياجات الأطراف ذات المصلحة لعدم وجود لوائح ناظمة وملزمة، فضلا عن اتهام بعض دول الحوض مصر بعدم الالتزام بالمبادرة وإصرارها على تنفيذ مشروعات الري والاستصلاح العملاقة بدون مشاورة دول الحوض.

  • المبادرة الانتقالية (1993)

بعد فشل مبادرة أندوغو تم إنشاء لجنة التعاون الفني لتعزيز تنمية وحماية البيئة لنهر النيل وعرفت اختصارا بـ”تيكونيل”، وتم إنشاؤها من قبل كل من مصر ورواندا والسودان وتنزانيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية مع بقاء الدول المشاطئة الأخرى كمراقب.

تعتبر تيكونيل خطة انتقالية لمدة 3 سنوات على أمل أنه عند انتهاء تلك الفترة سيتم إنشاء مؤسسة دائمة على مستوى دول الحوض، واعتبرها البعض ترتيبا جديدا يمثل” تحايلا على الهيمنة السياسية لمصر في مبادرة أندوغو” إلا أن تيكونيل ركزت على الجوانب الفنية مثلها مثل مبادرة “هيدروميت”، وهذا شجع الدول الأخرى على عدم الانضمام.

  • الإطار التعاوني (1997)

أنشأت مجموعة دول حوض النيل إطارا للتعاون في 1997، بهدف تعزيز الإدارة المتكاملة والتنمية المستدامة، والاستخدام المتناغم للموارد المائية في الحوض إضافة إلى الحفاظ على حمايتها لصالح الأجيال الحالية والمستقبلية، وتضمّن الإطار إنشاء آلية دائمة وهي مفوضية نهر النيل من أجل تسهيل وتعزيز إطار التعاون بين الدول الأعضاء.

  • مبادرة حوض النيل (1999)

لم تنقطع المشاورات الخاصة بالبحث عن الطرق الكفيلة باستدامة التعاون من أجل الوصول إلى آلية دائمة، ففي 1995 اتخذت لجنة حوض النيل الخطوة الحاسمة الأولى، وهي اعتماد خطة عمل حوض نهر النيل بدعم من الوكالة الكندية للتنمية الدولية، والتي تضمنت نحو 22 مشروعا.

وفي 1996، تم إنشاء منتدى للحوار القانوني والمؤسسي، لتقديم حلول للتعامل مع المعضلات القانونية والسياسية المعقدة المتعلقة بنهر النيل.

وفي 1997 أقامت لجنة النيل شراكة مع الوكالة الكندية للتنمية الدولية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي الذي أوكلت إليه أيضا مهمة “قيادة وتنسيق” أنشطة المانحين لدعم إنشاء آلية استشارية على مستوى الحوض.

وفي 1998، وافقت اللجنة الاستشارية الفنية لحوض النيل على مقترحات بما يخص” المبادئ التوجيهية لسياسة مبادرة حوض النيل ” و”خطة العمل لإنشاء مبادرة حوض النيل” ليتم الإعلان عن مبادرة حوض النيل رسميا في فبراير/شباط 1999، والتي وقعت عليها 9 من دول الحوض.

  • اتفاقية عنتيبي والمعادلات الجديدة

وفي إطار البحث عن التقريب بين وجهات النظر بين دول الحوض ظلت لجنة الخبراء في حالة انعقاد بين 1997 و2000 وقدمت اللجنة مشروعا باقتراح الإطار القانوني التعاوني بين دول الحوض إلا أن مصر والسودان وإثيوبيا تحفظت عليه.

وأوصت اللجنة بإنشاء لجنة فرعية لمناقشة مواد المشروع المقترح سميت باللجنة الانتقالية، ووافقت جميع دول الحوض وتكونت من 18 عضوا بواقع عضوين من كل دولة ما عدا إريتريا بصفتها عضوا مراقبا.

وكان هدف اللجنة هو التقريب بين وجهات النظر المختلفة والوصول إلى حل فيما يخص الاتفاقية التي أعدتها لجنة الخبراء، ولم تنجح اللجنة في التوصل إلى الهدف المنشود بعد عامين من العمل، وهو إيجاد توافقات حول المواد المختلف عليها، وبعد ذلك تشكيل لجنة للتفاوض حول الأمر في 2002.

واستمر عملها حتى تم التوصل لمشروع اتفاقية الإطار التعاوني في 2007، وفي هذا الاجتماع تم الاتفاق على أن يكون آخر الاجتماعات على المستوى الوزاري، وبعد ذلك يتم رفعه لمستوى رؤساء الدول.

مساحات الاتفاق وعوامل الانقسام

ما تؤكده حيثيات أعمال اللجان المختلفة وتقاريرها هو أن مساحة الاتفاق عظيمة إذا ما قورنت بنقاط الخلاف، حيث تم الاتفاق في مبادرة 1999 على ما يزيد على 90% من بنود الاتفاقية، إلا أن اجتماع كنشاسا في 2009 حمل بذور الخلاف التي فشلت معها كل اللجان؛ بدءا من اللجان الفنية وانتهاء باللجان الوزارية.

وكان أبرز تحفظات مصر والسودان المحافظة على الحصص التاريخية والمكتسبة، أو وضع بند يسمح بألا يؤخذ قرار بدون موافقتهما، أما إثيوبيا فقد تحفظت على مسألة الإخطار المسبق وتعريفات الأمن المائي وباقي دول المصب تصر على رفضها التشاور في المشروعات الجديدة على مجرى النيل.

وبدأت الدول بالتوقيع على الاتفاقية في 2011 وسُميت باتفاقية عنتيبي، ومن هنا قادت إثيوبيا مجموعة دول المصب في تبني الوثيقة التي تعتبر مرحلة فاصلة ما بين التعاون والعمل المشترك إلى فترة من الشكوك والصراعات التي قد تجر دول الحوض إلى مستقبل مجهول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button