ثقافة وفنون

ما سر احتقار الصهيونية للفلسطينيين والعرب؟

في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وعشية انطلاق “طوفان الأقصى” وقف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أمام عدسات المصورين والصحفيين قائلا “إسرائيل تحارب حيوانات بشرية وتتصرّف وفقًا لذلك”.

لم يكن موقف غالانت نابعًا من ثورة الغضب التي اجتاحت العقل الجمعي الإسرائيلي عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وإنما هي استبطان لكامل التقاليد النابعة في الأيديولوجية الصهيونية يوم نبتت للمرة الأولى أثناء القرن الـ16 الميلادي وحتى يومنا هذا.

إذ مثّلت إسرائيل المعاصرة المشروع العملي للعنصرية الصهيونية المستمرة ضد العرب، الذين يعتبرونهم من الأغيار أو “الحيوانات البشرية” على حد تعبير غالانت، وتتجلى تلك الحقيقة من خلال القوانين وميدان السياسة بل والعمارة الاستيطانية التي تستولي على الأرض وتقصي أصحابها بالطرد أو القتل أو ببناء سياج أمني عازل.

فصل عنصري

وعلى مستوى القوانين سنّ الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) العديد منها، والتي تنال بصورة مباشرة من الحقوق العربية في الداخل، مثل منع لم شمل العائلات الفلسطينية، وتقييد حرية التعبير، وقانون تمويل الجمعيات.

وتُظهر الإحصائيات قبل “طوفان الأقصى” بعام كامل أنه عام 2022 فتحت وزارة القضاء الإسرائيلي 415 قضية بسبب الشكاوى المرتبطة بالعنصرية، حيث أظهرت أن المواطنين العرب من فلسطينيي 48 ممن فُرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية يتصدرون قائمة البلاغات بسبب العنصرية المتنامية التي يتعرضون لها.

وفي فبراير/شباط 2022 أصدرت منظمة العدل الدولية تقريرًا بعنوان “نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية”. وكان مما جاء أن عمليات الاستيلاء الإسرائيلي الهائلة على الأراضي والممتلكات الفلسطينية وأعمال القتل غير المشروعة، والنقل القسري، والقيود الشديدة على حرية التنقل، وحرمان الفلسطينيين من حقوق المواطنة والجنسية، تُشكّل كلها أجزاء ترقى إلى مستوى الفصل العنصري “أبارتهايد” بموجب القانون الدولي.

وبحسب التقرير نفسه، ففي عام 2018 أصبح التمييز ضد الفلسطينيين يتجلى في قانون دستوري كرّس للمرة الأولى إسرائيل “دولة قومية لليهود” حصراً، وعزز القانون أيضاً بناء المستوطنات، كما خفّض مكانة العربية كلغة رسمية.

ويوثّق التقرير كيف يُمنع الفلسطينيون فعلياً من الاستئجار في 80% من أراضي دولة إسرائيل نتيجةً لعمليات الاستيلاء العنصرية على الأراضي، ولوجود شبكة من القوانين التمييزية المجحفة بشأن توزيع الأراضي وتخطيطها وترسيمها.

ويُعدّ الوضع بمنطقة النقب جنوب إسرائيل مثالاً رئيسياً على كيفية إقصاء سياسات التخطيط والبناء للفلسطينيين عمداً. فمنذ عام 1948، تعتمد السلطات سياسات مختلفة لـ “تهويد” النقب، بما في ذلك اعتبار مساحات واسعة محميات طبيعية أو مواقع إطلاق نار عسكرية، ووضع أهداف لزيادة عدد السكان اليهود. مما ترتب عليه عواقب مُدمّرة لعشرات الآلاف من البدو الفلسطينيين المقيمين بالمنطقة.

ويظهر في حرب غزة الحالية المستمرة منذ أكثر من 9 أشهر الخراب الكبير في كامل قطاع غزة، واستشهاد أكثر من 40 ألف فلسطيني، وتشريد مئات الآلاف، واعتقال الآلاف، وتدمير المستشفيات والبنية التحتية ومحطات الغاز والمياه والكهرباء، ونزوح الملايين المتواصل من الجنوب إلى الوسط إلى الشمال والعكس. وكلها صور أشد وضوحًا للعنصرية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، والمقامرة بحياتهم ومصائرهم، فضلا عن الحجم المهول من القتلى من النساء والأطفال الفلسطينيين.

وهذه الحقيقة تتجلى في العديد من المظاهر التي يقوم بها الضباط والجنود الإسرائيليون المنخرطون في الحرب الحالية على سكان غزة، ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي صوّر الجنود الإسرائيليون زميلاً لهم يتكلم في الهاتف مع ابنته يحتفل معها بعيد ميلادها، وكانت هديته بهذا الاحتفال تدمير أحد بيوت السكان الفلسطينيين بغزة، في دلالة لا تخفى عن الصورة المترسخة لغزة والفلسطينيين في مخيلة العقل الصهيوني المعاصر.

ولم تكن هذه الحادثة هي الأولى من نوعها في ظل هذه الحرب، ففي فبراير/شباط الماضي أقدم جندي إسرائيلي آخر على تفجير بيت في قطاع غزة انتقاما لمقتل أخيه الأصغر أور يوسيف الذي شارك في عملية الإبادة الحالية في غزة.

بينما قام الجيش الإسرائيلي بتفجير حي كامل تكريمًا لذكرى الشقيق الأكبر لأحد الجنود المشاركين بالعملية العسكرية، والذي قُتل أيضًا في معركة في القطاع، دون تحديد التاريخ أو الموقع، حسب تقرير نشرته الجزيرة في 19 فبراير/شباط الماضي.

العنصرية عند مؤسسي الصهيونية

كل هذه الحقائق التي نراها ونشاهدها بأعيننا اليوم عن مظاهر العنصرية الصهيونية تجاه العرب والفلسطينيين تجعلنا نعود إلى الأسس التاريخية والسياسية التي قامت عليها أفكار الصهيونية تجاه العرب.

إذ إن الأيديولوجية الصهيونية نشأت بأوروبا في الوقت الذي ظهرت فيه الفلسفة العنصرية عند العرق الآري في بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا ضد الشعوب الأوروبية والأمم الأخرى، ولهذا تأثّر زعماء الحركة الصهيونية بتلك الفلسفة وبمدرسة الإصلاح الاستعماري بأوروبا التي كانت تدعو إلى تهجير الأوروبيين البيض إلى أفريقيا وآسيا.

ولقد أيّدَ الزعيم الصهيوني ماكس نوردو تلك المدرسة، وطالب بنقل العاطلين عن العمل إلى المستعمرات الجديدة للعمل في الزراعة بدلا من أصحابها الأصليين الذين سمّاهم “العناصر المنحطة” من أجل التخلص من مشكلة البطالة في أوروبا.

ويرى أحمد سعيد نوفل في كتابه “دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي” أن هذه السياسة نفسها سارت عليها الحركة الصهيونية فيما بعد، حيث دعت إلى اتباع الأسلوب الاستعماري الأوروبي نفسه في فلسطين من أجل أن يحل “العنصر المتقدم حضاريًا في السيادة على العنصر الأقل تقدّما” حيث إنها أوحت للأوروبيين بأنها قادرة على تمدين السكان الأصليين في فلسطين من خلال إرسال المستوطنين اليهود الأوروبيين إليها.

فالإنسان اليهودي الأوروبي من وجهة نظرهم هو أفضل وأكثر قدرة على العمل من الإنسان الفلسطيني الذي صوّرته على أنه “متخلف” غير قادر على العمل، وأنه لا يرتبط بالأرض لأنه يعيش حياة البداوة المتنقلة في الصحراء.

ويرى الدكتور عبد الوهاب المسيري في “موسوعة اليهود واليهودية” أن صورة العربي المتخلف تكاد تكون راسخة في الأدبيات الصهيونية.

ولاحظ المفكر الصهيوني آحاد هعام عام 1891 أن المستوطنين الصهاينة يُعاملون العرب باحتقار وقسوة، وينظرون إليهم باعتبارهم متوحشين صحراويين، لا يرون ولا يفهمون شيئًا مما يدور حولهم. كما لاحظ أحد الرواد الصهاينة أوائل القرن الـ20 أن الصهاينة يُعاملون العرب كما يُعامل الأوروبيون السود.

وأما أهارون أرونسون (ت 1919م) -أحد زعماء المستوطنين الأوائل أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20- حذّر الرواد الصهاينة من أن يسكنوا بجوار “الفلاح العربي الجاهل الذي تتحكم فيه الخرافات، وأكّد لهم أن كل العرب مرتشون”.

وستتم ملاحظة هذه الأفكار الراسخة في روح الصهيونية لدى القادة الأوائل لها، فقد دعا زعيم الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل -الذي لم يذكر العرب في كتابه “الدولة اليهودية” ولا مرة واحدة- إلى نقل الحضارة الغربية للشرق الأوسط عن طريق إقامة وطن لليهود القادمين من أوروبا في فلسطين، إذ قدم اليهود أنفسهم على أساس تفوقهم العرقي على العرب.

وفي هذا يقول هرتزل “إن قيام دولة صهيونية في فلسطين يشكّل عنصرًا أساسيًا ومهمّا من عناصر مواجهة الروح الوحشية بأشكالها المختلفة”.

وسنرى هذه الروح عند ديفيد بن غوريون أول رئيس وزراء إسرائيلي والذي ادّعى أن فلسطين خالية من السكّان، وأن القلة التي تعيش فيها “متخلفة” وقد أسهمت في تخلف فلسطين، كما انتقد الحضارة والتراث الإسلامي العربي.

ورأى أن قيام دولة يهودية سوف يساعد على نقل الحضارة الغربية إلى المنطقة، ويقول “إن ثقتي ببني جنسي تجعلني أقول إن الأثر الحقير والمخزي للتراث العربي لن يستمر إلى الأبد، وإن العرب حوّلوا بلدًا مزدهرًا ومأهولا بالسكّان إلى صحراء”.

بن غوريون ادّعى أن فلسطين خالية من السكّان وأن القلة التي تعيش فيها “متخلفة” (مواقع التواصل)

وفي مذكرات زعيم الحركة الصهيونية وأول رئيس لإسرائيل حاييم وايزمان، سنرى أيضًا هذه الروح العنصرية تجاه العرب، ففي أوائل عام 1918 وبعد دعم بريطانيا للحركة الصهيونية وإقامة وطن قومي لليهود، تعينت لجنة للسفر إلى فلسطين بعد احتلالها من قبل الإنجليز.

وعينت الحكومة البريطانية مارك سايكس -السياسي الشهير الذي أشرف على تقسيم تركة الدولة العثمانية في الأقطار العربية والأناضول- منسقًا لتجهيزات وسفر هذه اللجنة إلى فلسطين المحتلة.

واقترح سايكس أن يلتقي زعيم الحركة الصهيونية آنذاك وايزمان بالملك البريطاني جورج الخامس ليكون بمثابة دعم قوي من الأخير لهذه اللجنة، ويتم تذليل كافة العقبات أمامها عند نزولها إلى فلسطين، ولكن قُبيل التقاء وايزمان بملك بريطانيا جاء إليه سايكس وقال له إن الأخبار جاءت من مصر “تفيد بأن العرب قلقون من نياتنا، وأنهم يتحرون ويسألون عمّا يجري وراء الستار، وأنه من الخير أن نُرجئ مقابلتك للملك الآن”.

اللافت أن حاييم وايزمان الذي كان لا يريد مقابلة الملك إلا بعد العودة من فلسطين صمّم بعدما سمع قول سايكس على اللقاء بالملك، ويقول في مذكراته “كان كلام سايكس موافقا لما كنتُ أخشاه، إلا أنني وقد تعيّنتْ المقابلة، وتحدّدَ زمنها رأيتُ أنه لا يجوز إلغاؤها، ورأيت فوق هذا أنه من غير اللائق أن تُرجأ المقابلة، أو أن تُلغى بسبب هياج العرب”. وهذا يكشف النظرة الصهيونية العميقة للعرب، واستهانته بما أسماه “هياجهم”.

Chaim Weizmann, Arthur Balfour and Nahum Sokolov
وايزمان (يسار) وصف العربي بأنه شعب غير مستعد للديمقراطية ومن السهل أن يقع تحت تأثير البلاشفة والكاثوليك (غيتي)

تحليل المسيري للخطاب الصهيوني

لاحظ المسيري أن طريقة صياغة الرؤية الصهيونية للعرب تتسم بكثير من سمات الخطاب الصهيوني ابتداء من الإبهام المتعمّد وانتهاء بالتزام الصمت وتجريد العرب من الإنسانية كأنهم لا شيء، وقد رأى أن وايزمان بلور قضية الصراع العربي الصهيوني بالأسلوب نفسه الذي بررت به الحضارة الغربية مشروعها الاستعماري في الأميركتين وآسيا وأفريقيا.

ويأتي وايزمان بحجج المدافعين عن العرب والطبيعة الفلسطينية الهادئة ويقول “إننا ما زلنا نسمع حتى الآن أناسًا يقولون: حسنا، ربما كان ما أنجزتموه عظيمًا تمامًا، ولكن العرب في فلسطين قد ألفوا حياة الدعة والسكينة، وكانوا يركبون الجمال، وكان منظرهم رائعًا، وصورتهم منسجمة مع منظر الطبيعة، فلماذا لا تظل هذه الصورة كما لو كانت متحفًا أو حديقة عامة؟ لقد وفدتم إلى البلاد من الغرب حاملين معرفتكم وإصراراكم اليهودي، ولذا فصورتكم لا تنسجم مع مناظر الطبيعة”.

ليرد وايزمان على هذه التصورات التي رآها نوعا من السذاجة قائلا “إن هذا الطرح يُذكّر المرء بالصراع الأبدي بين الجمود من جهة والتقدم والكفاءة والصحة والتعليم من جهة أخرى، إنها الصحراء ضد المدنية”.

ويتصف العربي حسب تصور وايزمان بصفات “غير إنسانية” فهو “عنصر دوني يحاول الجري قبل أن يستطيع السير، وهو شعب غير مستعد للديمقراطية ومن السهل أن يقع تحت تأثير البلاشفة والكاثوليك” أو كما قال في رسالة بعث بها إلى الفيزيائي الشهير أينشتاين في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1929م.

وسنلاحظ هذه الحقيقة لدى عامة الشعب الصهيوني، ففي أحد استطلاعات الرأي التي نُشرت نتائجها عام 1971 جاء أن 76% من الإسرائيليين يؤمنون بأن العرب لن يصلوا إلى مستوى التقدم الذي وصل إليه اليهود.

بل إن لحظة الحقيقة -التي رآها هرتزل وأدركها في مكنون الاستعمار الغربي وأنه راحل في النهاية- لم تجعله ينتبه إلى كنه المشروع الصهيوني رغم أنه مؤسِّسه. فحين جاء هرتزل إلى القاهرة والتقى بعض مثقفيها أدرك أنهم كما يقول “هم سادة المستقبل هنا، ومن العجيب أن الإنجليز لا يرون ذلك، فهم يعتقدون أنهم سيتعاملون مع الفلاحين إلى الأبد”.

ثم أخذ هرتزل بعد ذلك يصف كيف أن الاستعمار نفسه يخلق الجرثومة التي تقضي عليه، وذلك لأنه يعلّم الفلاحين الثورة، ثم أبدى هرتزل دهشته لفشل البريطانيين في إدراك هذه الحقيقة البسيطة.

ويعلق المسيري على هذه الحادثة العجيبة، قائلا “يحق للمرء أن يتعجّب لفشله (أي هرتزل) هو نفسه في إدراكها، إذ إنه ذهب ليتفاوض اليوم التالي بشأن منطقة العريش لتكون موطنًا للاستيطان الصهيوني، ويبدو أن ما حدث هو لحظة إدراك تاريخية نادرة من جانب الزعيم الصهيوني حيث فهم فيها الاستعمار البريطاني باعتباره ظاهرة تاريخية إنسانية لا تتسم بالثبات، ولكنه غاص مرة أخرى في الأسطورة الصهيونية الحلولية العضوية فاستثنى الاستعمار الصهيوني المقدّس والمطلق من هذا القانون التاريخي الإنساني”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى