ماكرون.. جاء باسم الوسطية فغيّر المشهد السياسي الفرنسي برمّته
نشرت في •آخر تحديث
سوّق الرئيس الفرنسي حزبه على أنه قوة وسطية ضد التطرف، لكنه يواجه الآن استحقاقا نتائجه غير مأمونة النتائج، وبالتالي فإن استراتيجيته المتمثلة في تأليب ائتلافه الرئاسي ضد تيارين يقفان على النقيض من بعضهما قد لا تأتي أُكلها مع الناخبين.
عندمافاز إيمانويل ماكرون برئاسة فرنسا للمرة الثانية عام 2022، لم يجد بدّا من الاعتراف بأن تصويت بعض الناخبين لصالحه في الدور الثاني لم يكن فقط إلا بهدف الوقوف بوجه مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن زعيمة التجمع الوطني.
سيد الإليزيه أعلن وقتها إن العديد من الفرنسيين قد صوّتوا «ليس لدعم أفكاري (السياسية)، بل لعرقلة أفكار اليمين المتطرف»، أي أن الناخبين كان عليهم أن يختاروا بين أمرين أحلاهما مرّ إذن أنهم صوّتوا له ليس حبا فيه بل كرها لغريمته الشقراء.
مرت سنتان إذا، ولم نعد أمام ذلك الزخم الذي أحاط بما يُسمى بـ «الجبهة الجمهورية» لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة. فقد جاء حزب التجمع الوطني (RN) في المرتبة الأولى في الانتخابات الأوروبية وكذلك الحال في الدور الأول من الانتخابات التشريعية المبكرةالذي شهدته فرنسا في الثلاثين من يونيو حزيران الماضي. وتقول التوقعات إنه سيتصدر أيضا قائمة الأحزاب المتنافسة في الدور الثاني المرتقب في السابع من يوليو تموز.
وفي الوقت نفسه، تراجع دعم معسكر ماكرون متمثلا في ما يسمى حركة “إلى الأمام” في البرلمان. فمن أغلبية نسبية حظيت بها الأخيرة في الانتخابات التشريعية عام 2022 انحسرت شعبيتها وجاءت في المركز الثالث بفارق كبير يفصلها عن اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية الشهر الماضي.
وقد وصف الرئيس ائتلافه بأنه بديل لنقيضين، لكن ترتيبه جاء متأخرفي استطلاعات الرأي مقارنة بحزب التجمع الوطني (RN) اليميني المتطرف وائتلاف يساري يسمى الجبهة الشعبية الجديدة (NFP)، حيث قال البعض إن النتائج قد تؤدي إلى برلمان معلّق.
إذن كيف تمكنت هذه العلامة التجارية السياسية التي ظهرت على الساحة عام 2017 من إعادة بناء المشهد السياسي الفرنسي في الداخل بل كيف ساهمت في صعود نجم اليمين المتطرف؟
قوة شخصية
لقد سوّق ماكرون نفسه على أنه سياسي لا ينتمي لا لليسار ولا لليمين. حيث أطلق حركة وسطية انبثقت عن كلا الحزبين المعتدلين التقليديين في البلاد. ومع ذلك، يقول الخبراء إن الرئيس الفرنسي لم يتمكن من إنشاء حركة تملأ الفراغ الذي تركه انحسار شعبية المعسكريْن المذكوريْن.
قال ستيفان كاديو، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليون 2: «لقد حرر النظامَ السياسي الفرنسي الذي كان يتميز تقليديًا بالانقسام بين اليمين واليسار».
وقال كاديو: «لجعل عمله الشخصي (السياسي) مربحًا، كان على ماكرون إقناع الناس بالطبيعة البالية للانقسام بين اليمين واليسار من خلال تقويض جميع المعايير التي دأب عليها الفضاء السياسي».
وقال المتحدث إن الرئيس الفرنسي فشل الآن في «بناء أي شيء»، ولم يتبق سوى مساحة سياسية «قيد الإنشاء»، لأنه لا يستطيع الجمع بين المعسكرين المتباينين.
انتقل ماكرون من الاعتماد بشكل أساسي على الناخبين اليساريين عام 2017 إلى المزيد من أنصار اليمين في انتخابات 2022. إذ شهدت شعبية الحزب الاشتراكي (PS) انخفاضًا كبيرًا في كل من الانتخابات الرئاسية لعامي 2017 و 2022، في حين تراجعت أسهم حزب “الجمهوريون” اليميني (LR) عام 2022.
وقد استندت حركته إلى تسويقترشيح ماكرون وعلامته التجارية، وربط صورته بشكل جوهري بالائتلاف الذي يمثله.
وقال كاديو: «لقد راهن على خبرته بأن الفترة التي قضاها في الخدمة المدنية العليا والقطاع الخاص يمكن استخدامها لضمان شرعيته للتغلب على حالة الانقسام بين اليسار واليمين».
منذ انتخابه لأول مرة، انخفضت شعبية ماكرون من نسبة تتعدى ال 50٪ إلى ما دون ال 30٪، إذ يقول بعض الناخبين الذين يفكرون في التصويت لصالح اليمين المتطرف إن الرئيس قد خذلهم.
تحدثت يورونيوز أثناء تجمع انتخابي لليمين المتطرف إلى كريستيان، وهو مواطن فرنسي يبلغ من العمر 67 عامًا ويعيش في إحدى القرى قرب مدينة ليون. يقول المذكور إنه صوّت سابقًا لماكرون لكن للرئيس الفرنسي «طريقة لإثارة غضب الناس» على حدّ تعبيره.
ويضيف كريستيان الذي عمل سابقا في مصنع للسيارات: “لا يمكننا أن ننكر أن قام بأشياء وإن كنا ننسى سريعا ما تم القيام به، وننظر بشكل أساسي إلى ما لا يزال يتعين القيام به، لكن طريقته غيرناجعة. فلديه طريقة مستفزة لطرح القضايا تثير الغضب حتما”.
سقوط متوقع
كان انخفاض نسبة تأييد ماكرون أمرا متوقعًا إلى حد كبير في فرنسا.
قالت تارا فارما، الزميلة الزائرة في معهد بروكينغز في واشنطن والخبيرة في السياسة الفرنسية: «إن الشعب الفرنسي دائمًا ما يمل من قادتهم».
وأضافت: “أعتقد أن هناك شعورا بالضجر ينتاب السكان الفرنسيين تجاه رئيسهم”.
لكن جزءًا من مشكلة ماكرون هو افتقاره إلى “القاعدة الشعبية على المستوى المحلي” لأن مركز الثقل كله يوجد في باريس.
في مجلس الشيوخ الغرفة السفلى للبرلمان، لا يزال الحزبان التقليديان وهما LR اليميني وPS اليساري يتصدران المشهد، ولم يتمكن حزب ماكرون أيضًا من السيطرة انتخابيا على أي من كبريات محافظات فرنسا الـ 13 في الانتخابات الإقليمية عام 2021.
وقالت الأكاديمية: “لا أعتقد أن حزبه قضى وقتًا كافيًا في بناء قاعدة شعبية محلية لأنهم نعم، خسروا الانتخابات الأوروبية، لكنهم خسروا أيضا جميع الانتخابات المحلية في السنوات السبع الماضية”.
بدوره قال ستيفان كاديو إن ماكرون عمل على زيادة مركزية السلطة في ظل الجمهورية الخامسة، التي تمنح الرئيس بالفعل صلاحيات تنفيذية غير مسبوقة.
يقول الخبراء إن هذا الأمر أو النفوذ قد ظهر جليّا وتفاقم بشكل خاص خلال الأزمات التي عرفتها فرنسا مثل احتجاجات السترات الصفراء ووباء COVID-19.
بين نقيضين
لطالما وصف ماكرون حركته بأنها سدّ منيع يقف ضد اليمين المتطرف، حيث واجه مرّتين مارين لوبن عن حزب التجمع الوطني RN في الانتخابات الرئاسية واعتمد على دعم الناخبين لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة.
ووفقًا لفارما، فإن محاولات تصوير الائتلاف الرئاسي الآن على أنه يقف بين “نقيضين” “خطيرة جدًا”، إذ أنها تقدم صورة غيرمنصفة بحق ائتلاف اليسار متمثلا في الجبهة الشعبية الجديدة (NFP).
في المقابل، تقول المتحدثة ثمة القليل من التجييش ضد التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي تمكن من النمو محليًا ليصبح القوة السياسية الأولى في فرنسا.
وتضيف فارما: “الأسبوع المقبل، قد يكون من الصعب على ماكرون إنشاء كتلة ضد اليمين المتطرف في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية بعد تأليب الحزب ضد الائتلاف اليساري”.
من جهته، قال ماتياس برنارد، رئيس جامعة كليرمون أوفيرني في مدينة كليرمون فيران الفرنسية، لـ «يورونيوز» إن استراتيجية ماكرون المتمثلة في أن يكون «السدّ المنيع ضد التطرف» قد تكون الآن نقطة ضعف.
ففي عامي 2017 و 2022، كان ماكرون هو من يقف بوجه اليمين المتطرف، لكن التيار الوسطي قد جاء في المرتبة الثالثة.
وقال برنارد: “يُنظر إلى الجبهة الشعبية الجديدة (اليسارية) على أنها الكتلة الأكثر فعالية ضد اليمين المتطرف، بينما يُنظر إلى التجمع الوطني (يمين متطرف) على أنه الكتلة الأكثر فعالية ضد أقصى اليسار وحزب فرنسا الأبية Insoumise (الحزب اليساري)”.
وأضاف أن “هذا المركز وجد نفسه عالقا بين هاتين الكتلتين اللتين تستطيع كل منهما استقطاب الأصوات على حساب الأخرى”، حيث تحولت استراتيجية ماكرون لوقف التطرف الآن إلى نقطة ضعف”.
أما فارما فقالت: “نظرًا لأنه كان من المفترض أن يكون ماكرون هو هذا السياسي المعتدل والعاقل والمثقف، فقد كان من الصعب حقًا، على ما أعتقد، على اليمين المعتدل واليسار المعتدل إيجاد مكان في هذا المشهد الذي نسفه ماكرون تمامًا”.
ولكن الآن، وبالنظر إلى نتائج الانتخابات الأوروبية، قد يكون هناك ” فرصة لليسار المعتدل حتى يعيد بناء نفسه تدريجيا ويحتل مجددا مكانا بارزا في المشهد السياسي الفرنسي»، على حد قولها.
وأضافت بالقول: فيما تتجه فرنسا نحو ما قد يكون برلمانًا معلقًا، قد تضطر البلاد للبحث عن طريقة توافقية لممارسة السياسة على شاكلة ما يجري في أوروبا ومعرفة ما إذا كان يمكنها التعايش مع الواقع الجديد وتقديم تنازلات في ظل صعود أسهم اليمين المتطرف.