العدالة الاجتماعية.. قبل «العولمة».. !
أما أغلب النشاط الاقتصادي والاجتماعي للشعوب، فيتولاه «القطاع الخاص». إن «العولمة» بذلك -وبناءً على الاتفاقيات السياسية والاقتصادية المؤسسة لها- يمكن أن تسير في اتجاه معاكس لمصالح الكثير من الشعوب، في الناحية الاقتصادية بالذات. فما زالت معظم حكومات العالم الثالث بخاصة، في أمس الحاجة إلى «التدخل» الحكومي (الرشيد)، في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها.. كي تقلع من مستنقعات العوز والتخلف، إلى فضاءات التقدم والازدهار.
فـ«التدخل» الحكومي المحمود، هو المتجسد في: سن القوانين المنصفة والنظم العادلة، المنظمة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي، والهادفة للحيلولة دون أن يأكل القوى الضعيف، وتلبية «الاحتياجات الأساسية» للمحتاجين من مواطنيها.. ولو اقتضى الأمر تملك -وإدارة- الكثير من منشآت الخدمات العامة، ولو إلى حين. بل إن كل دول العالم (تقريباً) المتقدم منها والمتخلف، في حاجة ماسة (ودائمة) إلى قدر من «التدخل» الحكومي.. لتحقيق هذه الأهداف النبيلة. بدليل وجود أحزاب اشتراكية ديمقراطية قوية في كل الدول المتقدمة. فالحرية الاقتصادية المطلقة يمكن اعتبارها -في أغلب الحالات- مفسدة مطلقة… تماما كما أن «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة»…
****
كما أن الدول الريعية (Rentier States)؛ أي تلك الدول التي تسيطر حكوماتها على ثروات طبيعية -تنتج بكميات تجارية- يتوجب عليها أن «تنفق» ريع هذا المورد أو ذاك، على تنمية ورفاه شعبها، باعتبار الملكية العامة للموارد، وأن الشعوب هي مالكة ما في أراضيها من ثروات طبيعية. وبقدر الريع المتحقق من هذا المورد أو ذاك، يتوجب على الحكومة -أي حكومة- أن تنفق على شعبها.. في هيئة: عوائد وخدمات، وإعفاءات… تنعكس (بالإيجاب) على حياة ورفاه ونمو شعبها، وسد احتياجاته الملحة. وذلك يتطلب ولا شك «تدخلاً» حكومياً جاداً ومتواصلاً، في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها، من منطلق توزيع العوائد… بصوره العديدة المختلفة.
وكلما زاد الريع -نسبياً- توجب على الحكومة أن تدير دولة رفاه (Welfare State) لصالح شعبها، وبما يخدم قيمه ومصالحه العليا. والجدير بالتذكير هنا هو: أن الحكومات التي تستمد معظم شرعيتها، من قبولها، ومما تحققه من «إنجازات» لصالح الوطن والمواطن، تنفذ -أي هذه الإنجازات- بالإنفاق الحكومي. وهذا «التدخل» -على أي حال- يعتبر «معضلة»، بالنسبة لتيار العولمة.. الذي يبغى -كما أشرنا- كف يد الحكومات عن «التدخل» في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها. رغم أنه ضرورة ومتطلب، في كثير من الحالات، للحيلولة دون سحق الطبقات الدنيا من الشعوب.
****
وقد تنبه العديد من المفكرين السياسيين والاقتصاديين (الغربيين وغيرهم) لهذه المسألة… فرفضوا فكرة حظر «التدخل» الحكومي، على إطلاقها، ونادوا بضرورة ووجوب هذا التدخل، في حالات كثيرة، منها: حالات الدول الريعية. بل إن معظم هؤلاء يعتقدون أن على كل حكومة أن تبذل قصارى جهدها لتوفير ما يعرف بـ«الحد الأدنى من العيش الكريم» لشعبها… ذلك «الحد» الذي يتمثل -في رأيهم- فيما يلي:
– توفير الرعاية الصحية الوقائية والعلاجية الأساسية للمواطنين، مجاناً.
– إجبارية التعليم ومجانيته، حتى نهاية المرحلة الثانوية – على الأقل.
– توفير فرص العمل لكل القادرين عليه، من مواطنيها، ومساعدة من لم يجد عملا -بقدر مناسب- حتى يعمل.
– تقديم المساعدة المناسبة للمحتاجين، وغير القادرين على العمل (الضمان الاجتماعي).
– إعانة المواطنين المتضررين من الكوارث الطبيعة والأزمات، وغيرها.
ولـ«تمويل» عملية القيام بتوفير هذا الحد الأدنى (من «العيش الكريم») من الطبيعي، والمنطقي، أن تعتمد الحكومة -أي حكومة- على ما قد يكون لديها من «ريع» – من مورد طبيعي أو غيره. إضافة إلى: فرض ضرائب على القادرين من مواطنيها (عند اللزوم، وفي حالة الحاجة الحكومية الماسة) للتمكن من القيام بهذا العمل الضروري، وكم طالب المفكرون بـ«أنسـنة» العولمة، ومنع ما قد ينجم عنها من أضرار… تلحق بالغالبية (المحتاجة). ومن ذلك كف يد الحكومات عن إعانة شعوبها، وإلغاء عمليات دعم بعض السلع.
****
كل هذا يعني: أنه، ومع التأكيد على ضرورة -وفائدة- تولي «القطاع الخاص» أكبر قدر ممكن من النشاط الاقتصادي والاجتماعي للشعوب، لتمكين المبادرات الفردية، فإن وظيفة الحكومات يجب أن تتعدى «الأعمال الأساسية»؛ لتشمل القيام بقدر (يتناسب مع وضعها، وإمكاناتها، واحتياجات شعوبها) مما يسمى بـ«الأعمال الضرورية».. التي تعني: التدخل الحكومي، في عمليات الإنتاج والتوزيع الاقتصاديين، بما يخدم مصلحة مواطنيها. أما حظر «التدخل» الحكومي تماماً، أو وقف قيام الحكومات بالأعمال الضرورية، فهذه فكرة يجب ألا ترى النور طويلا – مهما كان تيار الخصخصة قوياً، ومهما بلغ عتى رياح «العولمة» الهوجاء. فالحظر التام للتدخل الحكومي، أمر غير عملي، ويرفضه المنطق، والواقع البشري…قبل أن ترفضه المشاعر والمصالح الإنسانية السوية، التي يجب أن تكون لها الأولوية، والتي تمثل العدالة الاجتماعية، والتي تعني: محاولات تقليص الفوارق الطبقية والمعيشية فيما بين فئات الشعب المختلفة، ولأقصى حد ممكن، باعتبار أن المساواة التامة غير ممكنة، وغير واردة.