الأرض أولا.. فلسطينيون في طريق الاستغناء عن العمل بإسرائيل
نابلس– من أرضٍ بور بالكاد تُزرع بالقليل من القمح سنويا، أضحى السهل الغربي في قرية بيت دجن قرب مدينة نابلس شمال الضفة الغربية جنة خضراء، وذلك بعد أن عمرها أصحابها بعشرات البيوت البلاستيكية وزرعوها بأصناف شتى من الخضار في خطوة أحيوا بها اقتصاد البلدة وتحدوا بها ظروف معيشتهم الصعبة التي يعانونها منذ عشرة أشهر.
وفي مبادرة جماعية قرر أكثر من 70 من “عمال إسرائيل” في بيت دجن استصلاح أراضيهم وزراعتها وصولا إلى الاستغناء الكامل عن الاحتلال الإسرائيلي الذين منعهم من الوصول إلى أماكن عملهم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبدعم قدمته الإغاثة الزراعية (غير رسمية) عبر شق الطرق ومد خط شبكة المياه، وبتوفير المجلس القروي لخدمات البنية التحتية من كهرباء وغيرها، أُطلق المشروع الزراعي في القرية منذ أكثر من شهرين وبدأ يطرح نتاجه.
وكغيره بين أكثر من 200 من “عمال إسرائيل” في قرية بيت دجن، كان حال الأربعيني مازن أبو جيش الذي فقد عمله بعد 12 عاما في إسرائيل، وظل دون عمل حتى مارس/آذار الماضي إلى أن بادر والعشرات من أمثاله لاستصلاح أراضيهم في السهل الغربي.
الأرض أفضل من “عبودية إسرائيل”
ومن 150 دونما (الدونم يعادل ألف متر مربع) عمَّر أبو جيش دونما ونصفا هي مساحة أرضه، وزرعها بالطماطم والفلفل الأخضر، فأنتجت محصولا وفيرا حقق دخلا جيدا في ظل أوضاع اقتصادية صعبة وبطالة جاوزت 32% بالضفة الغربية واقتربت من 80% في غزة حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
وتجولت الجزيرة نت في المنطقة المستهدفة بقرية بيت دجن، واطلعت من قرب على هذه التجربة التي برزت كأولى المبادرات الجماعية التي استفاد منها “عمال إسرائيل”، وأوجدوا البديل الذي وفَّر عليهم جهدا ووقتا، والأهم كما يقول أبو جيش “عودتهم لأرضهم وتثبيت هويتها بعيدا عن عبودية العمل في إسرائيل”.
ويضيف أبو جيش للجزيرة نت أن “المقابل المادي في إسرائيل قد يكون أفضل إلى حد ما، لكنّ العمل هناك مرهق وبلا كرامة”.
وبلغة الأرقام يصف أبو جيش مشروعه الجديد ويقول إنه أفضل من العمل في إسرائيل، فمقابل 6 ساعات من العمل في الأرض يقابلها 17 ساعة في إسرائيل، إضافة إلى العمل بحرية وأمان وهدوء وراحة نفسية وانتماء، كما أن الحفاظ على الأرض أكثر أهمية من الجدوى الاقتصادية.
ومن مدخول بسيط لا يتجاوز الـ200 دولار أميركي ثمنا لإنتاج الدونم الواحد من القمح سنويا، أصبحت المساحة ذاتها تدر أضعافا كثيرة بعد الزراعة داخل البيوت البلاستيكية، وبمبلغ يفوق الـ8 آلاف دولار أميركي سنويا حسب أبو جيش، لأنها زراعة مستدامة طوال العام وجدواها الاقتصادية أنجع.
ويعمل أبو جيش في مزرعته رفقة اثنين من أبنائه، ويعكف مثل بقية المزارعين على تشغيل آخرين من “عمال إسرائيل”، كما يعمل على تطوير زراعته بأصناف جديدة من الخضار والفواكه كالعنب والفراولة.
استصلاح الأراضي وحمايتها من الاستيطان
ومنذ الحرب على غزة قبل 9 أشهر، أغلقت إسرائيل منافذها ومعابرها بوجه 200 ألف من العمال الفلسطينيين، متسببة بخسارة قدرها مليار و250 مليون شيكل شهريا (نحو 342 مليون دولار) حسب الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين.
ومثل أبو جيش اختار المواطن سمير جميل حامد العودة إلى أرضه وزراعتها بعد أن استصلحها وحصل على الخدمات الأساسية للزراعة وأهمها الماء. يقول إن عشر سنوات من العمل بإسرائيل أرهقته ولم تشعره بالفرح الذي يعيشه الآن في أرضه.
ومن خلال دفع جزء وتقسيط آخر من ثمن البيت البلاستيكي الذي يقدر بـ10 آلاف دولار أميركي، استصلح حامد أرضه وزرعها بالخيار والطماطم، ولا يدخر جهدا في تطوير مزرعته وتحسين إنتاجها وزيادته.
ويهدف حامد والمزارعون أمثاله إلى زيادة عدد الدونمات المستصلحة لتصل 300 دونم خلال العام القادم 2025، هذا بالطبع إضافة لتحسين اقتصاد قريتهم وتشغيل أبنائها لحماية أرضه من المصادرة والاستيطان، خاصة وأن الاحتلال يصنفها مناطق “سي” ويُخضعها لسيطرته الأمنية والإدارية، مما دفع مواطنين كثرا لاستئجار أراض بور من أصحابها وزراعتها.
وسط إقبال كبير .. ماذا يقول الداعمون؟
وتقوم فكرة الإغاثة الزراعية أساسا على تحويل الزراعة البعلية في سهل بيت دجن إلى زراعة مروية، وتزامن ذلك مع وقف العمل بإسرائيل، ليلجأ عشرات العمال من القرية إلى الاستفادة من المشروع الذي بات يُشغِّل 300 عامل بشكل يومي وفق المدير العام للإغاثة الزراعية منجد أبو جيش.
ويضيف منجد أبو جيش في حديث مع “الجزيرة نت” أنهم بصدد توسيع المبادرة لتشمل زراعات أخرى، خاصة وأن شبكة المياه توافرت وأصبحت تغطي نحو 5 آلاف دونم من أراضي السهل الممتدة بين قريتي بيت دجن وبيت فوريك اللتين تُعدان أكثر من 20 ألف نسمة.
ويقول “الزراعة بمختلف أصنافها ستسد الاحتياج المحلي لهاتين البلدتين المحاصرتين خلف حاجز عسكري (حاجز بيت فوريك) الذي يتحكم بمصيرهم”.
ولتنمية مثل هذه المبادرات والمشاريع وتيسير السبل على المواطنين تقدم الإغاثة الزراعية الدعم للمزارعين مباشرة، كما تجهز البنية التحتية من شبكات مياه وطرق وغير ذلك، إضافة إلى دعم نماذج زراعية بعينها لإنجاحها، والعمل بكل طاقة على تسويق المنتوج وهو المعضلة الكبرى التي تواجه المزارعين.
وثمة معطيات تقريبية تقول إن جزءا كبيرا من “عمال إسرائيل” والعمال بشكل عام توجهوا للقطاع الزراعي عقب طوفان الأقصى باعتباره “الخيار الأقرب” لهم وفقا لمنجد أبو جيش الذي أضاف أن الإقبال على الزراعة زاد 30% بعد الحرب عما كان عليه قبل ذلك، مشيرا إلى أنه تم تشييد أكثر من 7 آلاف بيت بلاستيكي.
من جهته، يقول مدير دائرة الزيتون بوزارة الزراعة رامز عبيد إن لديهم مؤشرات خاصة بزيادة الرقعة الزراعية في الضفة الغربية، واهتمام الناس أكثر بها.
ويضيف أنهم لمسوا ذلك من خلال مشروع تخضير فلسطين الذي يوزعون فيه نصف مليون شجرة سنويا، وأوضح أن الطلب زاد من خلال مديريات الزراعة المختلفة، كما زاد الطلب على البيوت البلاستيكية.