في ذكرى تشييد القاهرة.. النيل يبني عواصم مصر
على ضفتي نهر النيل عاش المصريون، تتدفق المياه فتجري حياتهم، تنضر أرضهم ويتحول الوادي إلى مرعى، ولا تغفل أيديهم عن ترك الأثر كحضارة ارتوت بالنيل.
وعلى ذلك انتظمت عواصم مصر -عبر آلاف السنين- كما العِقْدِ على طول وادي النيل، وكأن جريان المياه هو الشاهد الأهم على استمرار الدولة، فمهما اختلفت الأنظمة السياسية اتفقت جميعها على أن يكون مركز الحكم على مقربة من النهر.
العاصمة الحالية القاهرة والتي تتم عامها الـ55 بعد الألف في يوليو/تموز الحالي، لا تُستثنى عن القاعدة التي وضعها القدماء، فتجاور النيل على ضفته الشرقية، ورغم اتساع مساحتها بمرور السنين يظل النهر هو العلامة المميزة لها.
يبلغ طول نهر النيل داخل مصر نحو 1520 كيلو مترا، ويصل من الجنوب إلى أقصى الشمال لينشق إلي فرعين هما دمياط شرقا ورشيد غربا، وينتهي إلى المصب في البحر الأبيض المتوسط. ويعيش 106 ملايين مصري على مساحة لا تزيد عن 7.8% من المساحة الكلية للبلاد، أغلبها على طول وادي النيل ودلتاه.
القاهرة.. حاضرة الدنيا
“حضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر، وإيوان الإسلام، وكرسي المُلك”، هكذا وصف المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع، ابن خلدون، مدينة القاهرة حين زارها في القرن الثامن الهجري وقرر الاستقرار بها بعد تنقل طويل بين المدن.
زيارة ابن خلدون للقاهرة جاءت بعد نحو 3 قرون من تشييدها، فبعد سيطرة الفاطميين على حكم مصر شرعوا في تشييد مدينة جديدة تكون عاصمة للبلاد، وفي السادس من يوليو/تموز عام 969م، وُضع حجر الأساس لبناء المدينة الجديدة التي تولى تأسيسها القائد الفاطمي، جوهر الصقلي.
خلال فترة وجيزة تم تشييد المدينة على مساحة 340 فدانا، وأحيطت بسور بلغ طوله 4800 ياردة، لتصبح بذلك أول مدينة مسورة في تاريخ مصر الإسلامية، وأكبر العواصم الإسلامية آنذاك.
ووفق ما ذكره المؤرخ الفرنسي، أندريه ريمون، في كتابه “القاهرة تاريخ حاضرة” فإن عاصمة الدولة الفاطمية كانت مصممة في البداية للخليفة وحاشيته وفِرق الجيش ثم توسعت بمرور الوقت بسبب الحركة الاقتصادية لتدخل في حيازتها مدينة الفسطاط.
في البدء سُميت العاصمة الجديدة بـ”المنصورية”، وعندما وصل الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الفاطمي مصر -بعد 4 سنوات من تشييد المدينة- تغير الاسم إلى “القاهرة”، وثمة ترجيحات عدة طرحها المختصون حول سر التسمية، فالبعض أرجع أصل الكلمة إلى اللغة الهيروغليفية وتعني “كاهي رع” أي موطن الإله رع، بينما رجح آخرون أن التسمية تعود لاسم قُبة داخل قصر فاطمي، والشائع أنها سمّيت نسبة إلى الكوكب القاهر وهو كوكب المريخ.
ورغم أفول حكم الفاطميين في مصر عام 1171م وتتابع الحكام بعدهم من الأيوبيين إلى المماليك ثم العثمانيين والعلويين حتى العصر الحديث، ظلت القاهرة عاصمة للبلاد، لتكون بذلك صاحبة المدى الزمني الأطول كمركز للحكم.
ذلك التاريخ الطويل للقاهرة جعلها زاخرة بالآثار الشاهدة على الحقب المتتابعة، وأهمُّ ما يميزها هو كثرة المساجد التاريخية مثل مسجد عمرو بن العاص ومسجد أحمد بن طولون ومسجد الحاكم بأمر الله الفاطمي، لذا سميت بمدينة الألف مئذنة.
ووفق آخر تقدير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (جهة رسمية)، يعيش بالقاهرة نحو 10 ملايين و300 ألف مواطن على مساحة تبلغ نحو 3 آلاف كيلو متر.
“تبدو وكأنها غابة من القلاع مرتفعة في كل مكان فوق مجموعة من المكعبات” غاستون فييت، مستشرق فرنسي
عواصم تجاور النيل
على مدار نحو 5 آلاف سنة، شُيدت 21 عاصمة لمصر، لم تخرج أغلبها عن حيز وادي النيل، وأول تلك العواصم كانت مدينة الطينة (2950 ق. م إلى 2892 ق.م).
وبعد توحيد القطرين الشمالي والجنوبي على يد الملك مينا أصبحت مدينة منف عاصمة للبلاد منذ عام 2895 ق.م حتى عام 2360 ق.م، ثم تحولت العاصمة إلى مدينة أهناسيا من عام 2360 ق.م. حتى عام 2160 ق.م.
وتعتبر مدينة طيبة من أشهر العواصم التاريخية للبلاد، إذ حظيت بكونها عاصمة 3 مرات، الأولى من عام 2160 ق.م حتى عام 1715 ق.م”، والثانية من عام 1580 ق.م. حتى عام 1353 ق.م والثالثة عام 1332 ق.م. حتى عام 1090 ق.م.
وتعد الفسطاط أول عاصمة إسلامية للبلاد، والتي بناها الصحابي عمرو بن العاص عقب دخوله مصر عام 641م، واختار موقعها عند تفرع النيل إلى دلتاه ثم تحولت العاصمة إلى مدينة العسكر أثناء الخلافة العباسية عام 750م، وفي عهد الدولة الطولونية أسس أحمد بن طولون عاصمة جديدة للبلاد وهي القطائع عام 868م.
أحِنُّ إلى الفسطاط شوقًا وإنني.. لأدعو لها أنْ لا يحُلَّ بها القَطْرُ
وهلْ في الحَيا من حاجة لحياتها.. وفي كلّ قُطْرٍ من جوانبها نهر
الشريف العقيلي، شاعر مصري عاصر الفاطميين
الاستثناء
رغم ارتباط عواصم مصر بوادي النيل فإن هناك استثناءً لتلك القاعدة التي دامت لآلاف السنين، فمع احتلال اليونانيين مصر في القرن الثالث قبل الميلاد أصبحت العاصمة لأول مرة عبارة عن مدينة شاطئية تقع شمالي البلاد.
وضع الإسكندر الأكبر حجر الأساس لمدينة الإسكندرية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط عام 332 ق.م واستكمل تأسيسها الملك بطليموس فيلادلفوس، لتصبح عاصمة البلاد – قرابة ألف عام- حتى الفتح الإسلامي عام 641م.
واشتهرت العاصمة الشاطئية بانتعاشة حضارية، وبرز ذلك في التفوق العمراني ومن دلائله مكتبة الإسكندرية والمنارة التي تعد من عجائب العالم القديم.