ثقافة وفنون

أشهر لوحات “القُبلة” في تاريخ الفن.. الجانب المظلم وراء الرومانسية

أشهر لوحات “القُبلة” في تاريخ الفن.. الجانب المظلم وراء الرومانسية

1. إمرأة من ذهب

اعلان

هي اللوحة الأكثر شهرة منذ القرن العشرين، والأكثر تسليعاً كذلك، أعيد نسخها على جميع الوسائط من أكواب القهوة إلى وسائد الماوس ومن المظلات إلى ممسحات الأحذية وحتى الواقيات الذكرية.. لكن هل كان كليمت معنياً حقاً بتمجيد الرومانسية والزواج في فيينا بداية القرن العشرين، حيث يسود “الأبوكاليبس المبهج” كما كتب هيرمان بروش للإشارة إلى الشعور بالكارثة الوشيكة والانهيار المقبل للإمبراطورية النمساوية المجرية؟

لنقترب أكثر كي نرى ما خلف هذه اللحظة شديدة الحسية.. الرجل يفرض نفسه في حين لا يكاد يتجاوز المرأة التي يعانقها طولاً والتي تجثو على ركبتيها وتلتفت نحونا كي نتعرف إلى ملامحها، وهي مصممة الأزياء ومحبوبة الدوائر البوهيمية وفناني “حركة الانفصال” إميلي فلوغ، شريكة كليمت وملهمته. ترقّط الزخارف والورود جسدها ويُلبِسها الضوء جلداً ذهبياً دافئاً.

يلتقي الاثنان في ما يشبه الطيران البطيء على مرج طري، لكن قدمي إميلي تلامسان حافة الهاوية، فتتأرجح الصورة بين الأمان والقلق كتأكيد على الواقع المتذبذب. وسيحرص كليمت على تغليف الشخصيات في أوراق الذهب، وكأنه يحاول استبقاء هذه النعمة ويبحث عن الخلود في عالم محكوم عليه بالتلاشي والسقوط في رعب الحرب العالمية الأولى. خلف هذه الأيقونة المقدسة للحب والجمال تختفي أيضاً شهية كليمت الجنسية التي وصفها مقرّبوه بأنها “غير بشرية”، حيث نقرأ في سيرته الذاتية: “من الجلي أن الطبيعة لم تكن متحمسة لجعله معبوداً للنساء، لكن ذلك لم يمنعه من أن يصبح أباً لأكثر من أربعة عشر طفلاً اعترف بأبوتهم جميعاً” وكان يحب أن يحيط نفسه بالمومسات اللواتي يتجولن عاريات في الأستوديو طوال اليوم، ويلاحقهن بثوبه الأزرق الواسع وشعره الأشعث تحت نظرات إميلي المتفحصة، التي كانت بدورها تميل للنساء.

2. قـبلـة “me too”

في نيويورك ظهيرة يوم الثلاثاء 14 آب 1945، بث راديو طوكيو بياناً للإمبراطور، الذي علينا أن نفتح ويكيبيديا كي نتهجى اسمه: هيروهيتو نعم.. وهو يعلن استسلامه لقوات الحلفاء وانتهاء الحرب العالمية الثانية بعد أربع سنوات من دخول الولايات المتحدة الحرب. تايمز سكوير تغص بالمحتفلين بما يسمى “يوم النصر على اليابان”. ووسط الحشد يسير الفوتوغرافي ألفريد إيزنشتاد حاملاً كاميرا لايكا صغيرة (كانت دائماً سبباً في عدم أخذه على محمل الجد). كلفته مجلة life بجلب “صورة مثالية” من الحفل، وهو ما عثر عليه في الساعة 5:51 مساءً حين رأى جندياً من البحرية يركض على طول الشارع ويُمسك بخيال أبيض.. تبين فيما بعد أنه يونيفورم الممرضة غريتا فريدمان.  

ولأن الصورة تحجب الوجهين، قام ثلاثة علماء فيزياء فلكية بفحص العلاقة بين غروب الشمس في مانهاتن وموقع الساعة وهم يستقبلون شهادات المئات الذين زعموا أنهم أبطال الصورة. وتقول فريدمان: “لست متأكدة بشأن القبلة، لم يكن حدثاً رومانسياً، كان مجرد شخص يحتفل، أمسك بي بقوة وقبلني، لم يكن خياري”.. بعد هذه الشهادة المترددة اعتبر الكثيرون أن الصورة ليست سوى توثيق لأشهر اعتداء جنسي في التاريخ، وحين صنع جون سيوارد جونسون منها تمثالاً عرضه في عدة مدن في الولايات المتحدة، ثم تخريبه في كل مرة بوسم #metoo

3. ” العمى”

يسأل الشاعر مارك ستراند: “لِمَ نبدو إلى الآن منتظرين شيئاً سيكون ظهورُهُ اختفاءَهُ؟” ولعلّ هذا ينطبق على الحب بشكل خاص وعلى هذه القبلة المختومة خلف الأقمشة البيضاء التي تُفرّق أكثر مما تجمع. وعلى الرغم من تحفظات رونيه ماغريت الهائلة فيما يتعلق بالتحليل النفسي، إلا أنه من الصعب عدم العودة إلى الحادث المروع الذي تعرّض له في مراهقته، إثر انتحار والدته ريجينا بيرتينشامب التي رمت نفسها في نهر سامبر. وحين اُنتشلت جثتها من المياه، كان طرف ثوب نومها المبلل يلتفّ حول وجهها كما يلتف حول العاشقَين في اللوحة. ولأن الشفقة هي في الأغلب إضافة الإهانة إلى الأذى، من الأفضل أن نصدّق ماغريت حين يقول إنه غير معنيّ بالتعبير الذاتي ويعزل نفسه تماماً عن مواضيعه.. فليس على العمل الفني أن ينطبق على حياة الفنان انطباق القناع الحي على الوجه.

4  “لماذا لا تصدقيني”؟

النحت، ولا سيما البدائي منه، يبالغ في حجم الرأس والأطراف والأعضاء التناسلية. فالمنحوتات الإفريقية مثلاً، برؤوسها الضخمة وعيونها الواسعة تُمثّل الأرواح، والإعجاب بها كأشكال جامدة ليس بكاف. وهذا أيضاً ينطبق على منحوتات رودان الذي كان ينزع إلى المبالغة في أعضاء الجسم المعبّرة، لكنه كان شديد التردد، وعندما أعجب تلاميذه بقدمي أحد تماثيله، حطم القدمين، فصاح أحدهم: “ولكنها أجمل ما فيه!”، وأجاب رودان “بالضبط “.

لكننا أمام تمثال “القبلة” الشهير الذي يجسد كائنين قُدّا من قطعة واحدة من الرخام، نلاحظ تغيراً طفيفاً في الأسلوب وميلاً نحو الرقة حتى يكاد الهواء يرتعش ويرنّ حول العاشقين باولو وفرانشيسكا؛ وهما من شخصيات الكوميديا الإلهية لدانتي، الذين قتلهما الزوج المخدوع وحكم عليهما بالتيه في جهنم.. السجال هنا ليس على القيمة الفنية للمنحوتة، بل على نسبتها لكامي كلوديل تلميذة وعشيقة رودان التي وعدها بزواجٍ ظل مُعلقاً كي ينتهي بها المطاف في مصحة للأمراض العقلية ثلاثين عاماً.

كانت معزولة عن العالم، قذرة ومهملة تعيش وسط جيش من القطط والمنحوتات المحطمة، حين جرّها الممرضون إلى ليل الحجز الطويل، الذي لم تغادره سوى إلى مقبرة جماعية. هي التي عانت من رُهاب الاضطهاد، ليس فقط لأنها شاركت رودان في إنجاز الكثير من الأعمال التي قُدمت على أنها من تصميم “المعلم” ولكن لأنها صدّقت أنه سيترك زوجته (وعشيقاته الأخريات) من أجلها، فقد كان يجزع حين لا يجدها حيث تركها، ويكتب لها: “لماذا لم تنتظريني في الورشة، إلى أين أنت ذاهبة؟ إلى أي ألم أنا منذور؟ هناك أوقات أفقد فيها الذاكرة فيكون ألمي أقل ولكن اليوم، ظل الألم القاسي كامناً. كامي يا حبيبتي رغم كل شيء، رغم الجنون الذي أشعر أنه يقترب مني، والذي سيكون بسببك، إن تواصل هجرك لي. لماذا لا تصدقيني؟”

5. من سيربح النصف مليون؟

لاهياً بتحييرنا وإرباكنا ترك فنان الغرافيتي الشهير بانكسي مخالبه في برايتون بإنجلترا عام 2005 حين رسم على جانب أحد المباني ضابطَي شرطة هائمين في قبلة وهما باللباس الرسمي وكل العدة القمعية من مسدسات وأصفاد. هذه الغمزة الساخرة من السلطة أصبحت عامل جذب سياحي حقيقي في المدينة. لكن كي نكون واقعيين، يعرف بانكسي جيداً أن أعماله ستُنقل من موقعها الأصلي ويختطفها أولئك المجهولون الذين يرفعون سماعة الهاتف في اللحظة الحاسمة ليفوزا بالمزادات العلنية، وقد عُرضت هذه القطعة في مزاد ميامي وبيعت مقابل 575 ألف دولار.. الفنان المتخفي الذي بدأ بالستريت آرت وساهم في تقبل هذا الفن الذي كان يُعتبر سرياً وفوضوياً، تحوّل سريعاً إلى “البزنس آرت” وصارت أعماله تُباع بمبالغ مدوخة.

6. ” لن تُصبحا واحداً مهما أوغَلَ بينكما العناق”

“لا شيء ينمو تحت الأشجار الكبيرة”.. هذا ما قاله برانكوزي بعد شهر قضاه في ورشة النحات الأشهر أوغست رودان التي كان قد دُعي إليها، معلناً انشقاقه ورغبته في أن يسلك طريقه وحيداً.. ابن الفلاح الفقير القادم من إحدى قرى رومانيا إلى باريس خطا بالفن التقليدي خطوة كبيرة في اتجاه التجريد، مُبسّطاً الخطوط أكثر فأكثر، متخلصاً من كل ما لا ضرورة له للوصول إلى “الشكل الأنقى”. لا يأخذ تعامل برانكوزي مع مفهوم الاختزال بعداً كلاسيكياً عرفناه في النحت التقليدي، لأنه هنا لا يطال فقط ما هو زائد عن الكتلة بل الكتلة نفسها. هي مرحلة متقدمة وقاسية لإقصاء الشكل وتقديم اقتراح بصري تندمج فيه طبيعة الخامة والمفهوم الإنشائي في اللغة الهندسية. بالرخام أو البرونز، يصبح الطائر خطاً ذهبياً رشيقاً، والقُبلة مُكعباً حجرياً مشروخاً تحزمه الأذرع.. ولا تعليق على هذه المنحوتة البليغة سوى الأبلغ الذي قاله أنسي الحاج: لن تُصبحا واحداً مهما أوغَلَ بينكما العناق/ فشلُ الاتحاد مُؤكَّد.

ــــــــــ

الرسومات المرفقة خاصة بالمقال للرسام السوري سعد حاجو .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى